السماء عليهم مدرارا؛ فيتوسعوا به، على ما قال به بعض أهل التأويل: إن اللَّه تعالى قد حبس عنهم المطر، وعقمت أرحام نسائهم، وهلكت مواشيهم وجناتهم لتمام أربعين سنة، ثم أهلكوا بعد ذلك، وكانوا كلهم كفارا، ليس فيهم صغير؛ فلذلك كان نوح - عليه السلام - يعدهم بما ذكرنا، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن يكونوا خافوا انقطاع النعمة عنهم بالإجابة وزوال السعة عنهم بالإسلام ومن الناس من يترك الإيمان خشية هذا، فأخبر - عَزَّ وَجَلَّ - أن الذي هم فيه من رغد العيش لا ينقطع عنهم بالإسلام، بل يرسل عليهم المطر من السماء مدرارا متتابعا، ويمددهم بأموال وبنين مع ما يجعل لهم من الجنان والأنهار، لكن ذوو الألباب والعقلاء ينظرون إلى حسن العاقبة وما إليه مآل الأمر دون الحال، فذلك الذي يرغب فيه؛ ولذلك اختلفت دعوة النبي عليه السلام لأمته: فمنهم من بشره بكثرة أمواله وبنيه، ومنهم من رغبه في آخرته، (فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ)، وقال: (قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ...) الآية.
ونظير الأول كقوله عَزَّ وَجَلَّ: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ).
والأصل أن الرسل - عليهم السلام - بعثوا مبشرين ومنذرين، داعين، زاجرين، محتجين، مدحضين، فما تلوا عليهم من أنباء الأولين دخل فيهم جميع الأوجه الثلاثة؛ إذ النذارة والبشارة مرة تقع بالابتلاء، ومرة بذكر ما ينزل بالمتقدمين المصدقين منهم والمكذبين؛ أن كيف كان عاقبة هَؤُلَاءِ وهَؤُلَاءِ.
وكذلك دعاء الرحمة يكون مرة بابتداء الدعاء، والزجر، وبذكر الأمم السالفة، وأن الرسل كيف كانوا يدعونهم ثانيا للحق، واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon