وجائز أن يكون القول الثقيل هو تكليف القيام عامة الليل.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (٦):
قرئ: (وطاء) و (وَطْئًا)، فمن قرأ: (وطاء) بالمد، فتأويله من المواطأة، وهي الموافقة، أي: موافق للسمع، والبصر، والفؤاد؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك معاني الأشياء، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن، وأشد استدراكا لمعانيه.
ومن قرأه: (وَطْئًا)، فهو من الوطء بالأقدام؛ فتأويله: أنه أشد على البدن وأصعب؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار، ولم يعتد ذلك بالليل، بل اعتاد الراحة فيه، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه.
ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد، فيمكث فيه كذلك؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك، ولحقه الكلال والعناء من ذلك.
ثم أمر رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر؛ فكان في ذلك محنة شديدة، وكلفة شاقة، واللَّه أعلم.
ثم الأصل أن المرء ينتشر بالنهار؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه، وينام الليل؛ طلبا للراحة، وإيثارًا للتخفيف، وكان رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته، وكذلك منع عن الراحة بالليالي، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع من الراحة والتخفيف؛ وذلك أن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة، فحُمِّل تبليغها إليهم بالنهار، ورفعت عنه الكلفة بالليل، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمرًا بما فيه المخاطرة بالروح والجسد، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك؛ وإنَّمَا فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه؛ فيكون


الصفحة التالية
Icon