شهيدا بائعا نفسه لله تعالى؛ على تفضيل وترغيب للعباد في مثله؛ لقوله: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ) معناه: تجدوه حاصلًا لكم، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضرًا في ذلك اليوم، ولكن الشر يكون عليهم، قال اللَّه تعالى: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا)، وقال - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا)، وفي حق الكلام أن يقول: " هو خير "؛ لأن " هو " يرفع ما بعده، ولكن " هو " كالفصل هاهنا، وحقه الحذف، وإذا حذف انتصب الكلام؛ لأن معناه: تجدونه عند اللَّه خيرا لكم مما خلفتم، فيكون " خيرا " مفعولا.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) يحتمل أوجها:
أحدها: أنه خير لكم، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم؛ فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير، ولكن ما يقدم لآخرته خير له، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله - عليه السلام -: " إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس ".
والثاني: أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذل الأموال للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل، فيكون في قوله: (هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه اللَّه تعالى؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم؛ فكان بذل المال لوجه اللَّه تعالى أعظم في الأجر، وأولى أن يقع فيه الرغبة.
ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال، فإذا طمعت لما تبذل لوجه اللَّه تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه، والذي يناله بالبذل.
ويجوز أن يكون قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَعْظَمَ) بمعنى: عظيم؛ إذ قد يستعمل حرف " أفعل " في موضع " فعيل "؛ كما يقال " أكبر " بمعنى: " كبير "، واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon