والجواب عن هذا: أن هذا الذي وصفه غير مستقيم في الشاهد؛ لأن منافع ما يفعله العباد ومضاره ترجع إلى أنفسهم، وليس من العقل أن يفعل المرء فعلا يعلم أنه يضره، وأما رب العالمين فإنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه؛ فجاز أن يخلق خلقا يعلم أنه يختار عداوته؛ ليظهر عند الخلق أنه لا يرجع شيء من المنافع والمضار إليه بعد أن يكون في الحكمة ذلك، واللَّه أعلم.
ثم في قوله: (وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) و (عَلِيم)، و (وَكِيل)، و (حَفِيظ)، إلزام المراقبة والتحفظ والتيقظ وبيان الترغيب والترهيب؛ لأنه إذا علم المرء أن عليه في كل ما يفعله رقيبًا يتيقظ، ولم يفعل إلا ما يُرضي به ربه، واللَّه المستعان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (٣).
قد وصفنا أن الحق إذا جرى ذكره يصرف في كل شيء إلى ما هو أليق به؛ فإذا ذكر في الأخبار أريد به: الصدق، وإذا ذكر في الأحكام أريد به: العدل، وإذا ذكر في الأقوال أريد به: الإصابة، فلما قال: (بِالْحَقِّ) هاهنا أفكأنه، أراد به: الحكمة، كأنه يقول: خلق السماوات والأرض بالحكمة.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (بِالْحَقِّ) يعني: للحق، وهو البعث، فكأنهم عنوا به: أن اللَّه تعالى لم يخلقهما عبثًا بل خلقهما للعبادة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) يحتمل هذا وجهين:
أحدهما: (فَأَحْسَنَ)، أي: أتقن، وأحكم، ومعنى ذلك: أن اللَّه تعالى خص صور بني آدم في الاستدلال بوحدانيته وربوبيته في أن جعل في أنفسهم حقيقة المعرفة والاستدلال بأنفسهم على وحدانية اللَّه تعالى، وأما غيرهم من الصور فإنما يقع الاستدلال لغيرها بما ليس لنفس تلك الصور حقيقة المعرفة والاستدلال بوحدانية الله تعالى؛ ولذلك كان خلق صور بني آدم أتقن وأحكم، واللَّه أعلم.
والثاني: أن يصرف الحسن إلى حسن المنظر، ومعنى ذلك: أن اللَّه تعالى خلق بني آدم على صورة لا يودون أن يكون صورتهم مثل صورة غيرهم من الخلائق، فثبت أن صورتهم في المنظر أحسن صورة، فذلك معنى قوله تعالى: (وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ)، واللَّه أعلم.