والرأس وغير ذلك، وفيها نفس أمارة بالسوء؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة، أي: شاهدة عليه بما قدم وأخر.
وجائز أن يكون هذا على الإضمار؛ فيكون قوله: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، أي: نفس الإنسان بصيرة بما عملت.
ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه، لكانت لا تشهد بما لا تعلم.
وليس الأمر عندنا على ما زعموا؛ لأنها لو علمت بذلك، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة، وقع لصاحبه العلم من جهته، وكذلك السمع لما حصل فيه السمع، وقع لصاحبه علم المسموع به، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها؛ فلما لم يقع له العلم بيديه، ولا برجليه، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب - علم أنه لا حظ لها في المعرفة، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها، بما يحدث اللَّه تعالى فيها علما ضروريا بذلك، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك، كما جعلت نطوقة في ذلك الوقت، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل، واللَّه أعلم.
* * *
قوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (١٦) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (١٧) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (١٨) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (١٩).
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ):
هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول، وذكر أهل التأويل أن جبريل - عليه السلام - كان إذا أتى نبي اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - بالوحي، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي اللَّه - عليه السلام - في أولها؛ مخافة النسيان، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه، كرروها بألسنتهم؛ كي يضبطوها ولا ينسوها؛ فكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك؛ خشية النسيان؛ فَنُهي عن ذلك بقوله: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، وهو كقوله: (وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ).
وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء