ففيه بيان ما ينتهي إليه عواقب من التزم طاعة اللَّه تعالى، وآمن بالبعث والحساب، وبيان ما ينتهي إليه عواقب من تولى عن طاعته؛ فقوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) جائز أن يكون أريد بها نفس الوجوه.
وجائز أن يكون أريد بها الأنفس، وتكون الوجوه كناية عنها، والذي يدل على أنه أريد بها الأنفس لا أعينها قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ)، والوجوه لا تظن ذلك، ولا تعلم به، فثبت أن ذكر الوجوه على الكناية، لا أن أريد بها أعينها، فهذا التأويل أوفق بما يقتضيه ظاهر اللفظ، وإنما صلح أن تكون الوجوه كناية عن الأنفس؛ وذلك أن النفس إذا تلذذت بأمر، ونالت شهوتها، ظهر سرور ذلك في وجهه، وإذا تألمت بأمر فاعتراها الحزن، ظهر أثر الحزن في وجهه؛ فيكون في قوله: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ) وصف لهم بما هم عليه من غاية السرور بالكرامات التي أكرموا بها حتى نضرت وجوههم بذلك.
وإذا ثبت أنهم قد نالوا الكرامات، ووصلوا إلى أنواع اللذات، لم يبق لقوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) موضع، إلا أن يصرف إلى حقيقة النظر؛ فيكون في هذا إثبات القول بالرؤية.
والثاني: أن الملوك الذين من عادتهم الاحتجاب عن الخلق، إذا قربوا إنسانا لم يحتجبوا عنه، ويكون تركهم الاحتجاب آثر إلى ذلك الذي أكرم بالتقريب من سائر ما يكرمه به؛ فجائز أن يكون اللَّه تعالى يكرم أولياءه بالنظر إليه، ويتفضل عليهم لذلك.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) منصرفا إلى انتظار الثواب؛ كما قاله بعض أهل التأويل، فتنتظر ما يأتيها من التحف والكرامات حتى وصفوا بنضارة الوجوه؛ فجائز أن يكون بعد تلك الكرامات كرامات وتحف أخر لم تأتهم بعد؛ ألا ترى إلى قوله: (وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (٢٤) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) والبسور من أدنى أحوال التغير، وغاية التغير أن تسود الوجوه وتكلح؛ فإذا لم يحل بهَؤُلَاءِ بعد غاية ما أوعدوا من العذاب، فجائز أن يكون الذين وعد لهم الكرامات لم ينتهوا بعدُ إلى أقصاها، ولم ينالوا بعد أرفعها؛ وإنما أكرموا ببعضها، وهم منتظرون لما يأتيهم من بعد.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أي: نجعل نظرها فيما أكرمت إلى اللَّه تعالى، ولا ترى ذلك الفضل مستوجبا من جهتها كما قد يرى المرء في الشاهد بعض ما خول من المال بحيله وسعيه، واللَّه أعلم.
وجائز أن يكون قوله: (إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ)، أن ليس كل الكرامات في نفسه خاصة وإلى ما


الصفحة التالية
Icon