القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضارون في رؤيته " وأهل التوحيد لم يختلفوا في صحة الأخبار التي جاءت في إثبات الرؤية، ولكن من نفى الرؤية بالبصر صرف الأخبار إلى العلم، وذلك غير مستقيم لوجهين:
أحدهما: أن البشارة بالرؤية خص بها أهل الجنة، ولو كان المراد من الرؤية العلم، لارتفع الاختصاص؛ لأن العلم به مما يقع به الاشتراك بين الفريقين.
ولأن كلا يجمع على العلم باللَّه تعالى في الآخرة، العلم الذي لا يعتريه الوسواس ولا الريب، والعلم الذي لا يعتريه الوسواس والريب هو علم العيان والمشاهدة، لا علم الاستدلال؛ لأن الآيات لا تضطر أهلها إلى العلم الحقيقي؛ ألا ترى إلى قوله: (وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى...)، وقال: (ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ)، وقال: (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ)، فإذا ثبت ما ذكرنا، فقد صاروا مثبتين للرؤية من الوجه الذي أرادوا نفيها؛ فتثبت الرؤية على نفي جميع معاني الشبه عن اللَّه تعالى، ولا نصف الرؤية بالكيفية؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة؛ وهو يُرى بلا كيف، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ) جائز أن يكون الظن في موضع العلم هاهنا.
وجائز أن يكون على حقيقة الظن، وذلك أن الظن يتولد من ظواهر الأشياء، فالأسباب إذا كثرت، وازدحمت، وقع بها العلم، وإذا قلت وخفيت، لم يقع بها علم؛ فجائز أن تكون أسباب الشر أحاطت به من كل جانب حتى وقع له اليأس من النجاة، وأيقن أنه يفعل به الشر.
وجائز أن يكون الأمر بعد لم يبلغ مبلغ الإياس؛ فيتوقع النجاة، ولا يتيقن أن يفعل به فاقرة، بل يكون منه على ظن، واللَّه أعلم.
والفاقرة: قيل: الشر، والمنكر، والداهية.
وقيل: الفقير: هو كسير الظهر، والفقر: الكسر، والفقار: عظم في الظهر يكسر، فكأن عظم الظهر يكسر في الآخرة ويسحب في النار على وجهه.


الصفحة التالية
Icon