كأنها لم تكن، ثم يعيدها بعدما أتلفها حتى لو أراد أحد أن يميز بين الأولى والثانية لم يقدر عليه، بل وقع عنده أن الأولى هي الثانية، والثانية هي الأولى، وهذا بعدما تلفت الظلمة الأولى، وذهبت كلها حتى لم يبق منها أثر؛ فلأن يكون قادرا على إعادتهم خلقا جديدا بعدما أفناهم، وقد بقي من آثار الخلق الأول بعضه - أولى.
ثم أضاف ذلك إلى السماء؛ لأن بدأهما يظهر من عندها.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (٣٠) قالوا: بسطها:
فمنهم من يقول: خلقها مجتمعة، ثم بسطها بعدما خلق السماوات؛ ألا ترى أنه قال: (دَحَاهَا)، ولم يقل: خلقها.
ومنهم من ذكر أنه خلق سماء الدنيا أولًا، ثم خلق الأرضين بعد ذلك، ثم خلق السماوات الست من بعد.
ومنهم من ذكر أنها كانت قبل أن تبسط تحت بيت المقدس، ثم بسطها بعد ذلك.
قال أبو بكر: هذا لا يحتمل؛ لأنه لا يجوز أن تكون بجملتها وسعتها تحت بيت المقدس، واللَّه أعلم.
ولكن معناه عندنا -إن كان على ما قالوا- فهو منصرف إلى الجوهر؛ أي: الجوهر الذي خلق منه الأرض كان هنالك، لا أن كانت بجملتها تحته؛ كما خلق هذا الإنسان من النطفة وإن لم يكن بكليته في النطفة، وخلق من التراب وإن لم يكن بكليته على ما هو عليه في التراب، وكان معناه: أنه خلق من ذلك الجوهر؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكره.
ومنهم من زعم أن خلقهما كان معا.
وذكر عن الحسن أن الأرضين خلقت قبل السماء بقوله: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ...)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ)، وقال: اسم السماء ما ارتفع من الشيء كما يقال للسقف: سماء؛ لارتفاعه عن الإنسان.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (٣١) ذكر ما أنشأه لنا؛ لنحمده، وما أخرج منها للأنعام لتذكير النعم - أيضا - لنشكره ونحمده عليه؛ إذ الدواب خلقت لنا، فما رجع إلى منافعها فهي راجعة إلينا، إذ بها ما نصل إلى الانتفاع بالدواب.