السماوات، والأرضين، والهواء، والشمس، والقمر، والليل، والنهار، فاستعمال السماء في إنزال المطر منها، واستعمال الهواء في جعله مسلكا للمطر، واستعمال الأرض في جعلها قرارا للمطر وأخرج منها ما فيه قوامهم ومنافعهم؛ فيكون في ذكر هذا فوائد:
إحداها: في موضع التعريف للخلائق: أن منشئ السماوات والأرضين، ومنشئ الخلق والشمس والقمر - واحد؛ لاتصال منافع بعض ببعض؛ إذ لو لم يكن كذلك، لكان لمنشئ السماء أن يمنع منافع السماء عن خلق منشئ الأرض.
والثانية: فيه تذكير قوته وعجيب حكمته؛ ليعلموا أنه قادر على كل ما يريد فعله؛ لا يضعف عن ذلك، ولا يعجزه شيء؛ لأنه جمع بين منافع ما ذكرنا مع تناقضها واختلافها في نفسها، فجعلها من حيث المنافع متسقة متفقة، وجعل كل واحدة منهن كالمتصلة بالأخرى، المقترنة بها مع بعد ما بينهما، فمن قدر على الاتساق بين الأشياء المختلفة، وقدر على الوصل بين الأشياء المتباعدة بعضها عن بعض - لقادر على إحياء الأموات والبعث.
والثالثة: ذكرهم هذا ليبين لهم حكمته وعلمه؛ ليعلموا أنه لا يخلق الخلق عبثا، ولا يتركهم سدى لا يستأدي منهم الشكر، ولا يبعثهم؛ بل ينشئهم ويميتهم فقط، فيخرج خلقه على ما فيه خروج عن الحكمة، ولأنه خلق البشر على وجه تمسه الحاجات، وتمسه الشهوات، وقدر الطعام على وجه إذا تناول منه دفع حاجته وسكن شهوته، ولو أراد أحد أن يتدارك المعنى الذي يعمل في دفع الحاجة وتسكين الشهوة ما هو؟ لم يصل إلى تعرفه؛ فيؤدي تفكره إلى دفع الشبه والاعتراضات التي تعتريه في أمر البعث وغيره؛ إذا كانوا يقدرون الأمور على قواهم ويسوونها على ما ينتهي إليه تدبيرهم، فإذا وجدوا في الطعام معاني هي خارجة من تدبيرهم وقواهم علموا أن ليس الأمر على ما قدروا؛ فيرتفع عنهم الريب والإشكال، وكذلك لو أرادوا أن يستخرجوا من الماء المعنى الذي به صلح أن تكون به حياة الأشياء كلها مع اختلاف الأشياء وتفاوتها واختلاف طعومها وألوانها - لم يمكنهم ذلك؛ فيعلمون أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ قادر على ما يشاء، فعال لما يريد، ويكون في النظر فيما ذكر حاجته وافتقاره إلى غيره تبيين أن اللَّه - تعالى - لم ينشئ الخلق لحاجة نفسه، وإنَّمَا خلق لحاجة البشر إليه.


الصفحة التالية
Icon