نفسه؛ بل الدنيا دار عمل، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى، وهذا كقوله: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ)، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم، بل كانوا صادقين أنه رسول اللَّه، وإن اللَّه - تعالى - يعلم أنه رسوله، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب، لا إلى نفس القول؛ كذا هذا.
ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا: فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه.
ومنهم من كان يظن أنه من اللَّه - تعالى - بمنزلة، وأنه مستوجب للإنعام، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة، أصابه ذلك من عند مُحَمَّد عليه الصلاة والسلام؛ فيتشاءمون به؛ ألا ترى إلى قوله: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ)؛ وعلى هذا كان ظن فرعون وقومه؛ قال اللَّه - تعالى -: (فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ).
فقوله: [(فَأَكْرَمَهُ)]، أي: أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه، أو جعله رئيس قومه، (وَنَعَّمَهُ)، أي: بسط الدنيا عليه: (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)؛ فكان ينظر بذلك.
وقوله: (وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ) أي: إذا اختبره؛ نضيق عليه رزقه، فيقول: (رَبِّي أَهَانَنِ)؛ فكان يظهر بذلك الجزع واللَّه - تعالى - اختبره بالنعم؛ ليستأدي منه الشكر بما أنعم، وابتلاه بضيق العيش؛ ليصبر، لا ليجزع؛ فلا شكر هذه النعم بل بطر، ولا صبر على الشدائد؛ بل جزع؛ فجائز أن يكون المراد بقوله: (كَلَّا)، منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع، بل إنما أنعم ليشكر، وقدر عليه رزقه ليصبر، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب، أما إهانته فحرام.


الصفحة التالية
Icon