أو يكون قوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ)، أي: لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم؛ فيكون في قوله - تعالى -: (أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) إظهار منه لسخاوته وجوده، على الافتخار منه بذلك، وامتنانا منه على أتباعه، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا، وقد علم اللَّه القدر الذي أنفق عليهم، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر لله - تعالى - أو توجيه الحمد إليه؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من اللَّه تعالى، وأن تلك المنقبة -وهي السخاوة- نالها باللَّه تعالى، وهذا كقوله - تعالى -: (فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ)، أي: آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا باللَّه - تعالى - فاذكروه كذكركم آباءكم، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة؛ إذ كل أحد يقول مثل ذلك: إنه أهلك مالا لبدا، وفعل كذا.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (٩):
فإن كان قوله: (أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) على نفي القدرة على البعث، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة، وهو أن اللَّه - تعالى - أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر، فقوله: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ)، أي: ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلِسَانًا) أي: خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر.
وقوله: (وَشَفَتَيْنِ) ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة.
أحدهما: أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء، استقذر ذلك منه.
وجعلهما طبقا للسانه؛ لئلا يمده، ويستعمله فيما لا يعنيه.
فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين؛ ليستأدي منهم الشكر، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا، ليس بالذي يعجزه شيء.
وقوله: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (١٠).


الصفحة التالية
Icon