ربي، أو على حجة من ربي وبرهان فيما آتاني من رحمته. والرحمة تحتمل النبوة لأنهم كانوا ينكرون رسالته لما أنه بشر مثلهم، فكيف خص هو بها دونهم وهو مثلهم؟! فيقول: (وَآتَانِي رَحْمَةً) أي: النبوة، وآتاني -أيضًا- على ذلك بينة وحجة. وتحتمل الرحمة الدِّين الذي كان يدعوهم إليه واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ): قرئ بالتخفيف والتشديد، أي: لبست، أو التبس عليكم حيث أعرضتم عنه.
ومن قرأ، بالتشديد: (فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ) يرجع إلى الأقباع والسفلة، أي: عميت عليهم القادة والرؤساء منهم ولبست. (فَعَمِيَتْ) بالتخفيف أي: التبس، وعمي على القادة والرؤساء.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَنُلْزِمُكُمُوهَا) أي: أنوجبها عليكم، وهي التي ذكر أنه آتاها إياه أو البينة التي ذكر أيضًا أو الدِّين الذي كان يدعوهم إليه، أي: لا نوجبها عليكم ولا نلزمها، وأنتم لها كارهون بلا حجة ولا برهان.
(وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ) أي: لا نلزمها لكم بلا حجة شئتم أو أبيتم ولكن بحجة.
وفيه أن الدِّين لا يقبل بالإكراه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (٢٩) على تبليغ الرسالة إليكم، أو على إقامة الحجة غلى ما أدعي من الرسالة، أو على الدِّين الذي يدعوهم إليه، أي: لا أسألكم على ذلك أجرا، فلماذا تعرضون عما أدعوكم إليه وأقيمه عليكم ليكون لكم الاحتجاج أو الاعتذار؟! وكذلك يخرج قوله: (أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ) أي: لا تسألهم أجرا على ما تبلغه إليهم ويدعوهم إليه، فيمنعهم ثقل ذلك الغرم إجابتكم إياه، فعلى ذلك الأول ذكر هذا؛ لأن ما يلحق الإنسان من الضرر إنما يمنعه عن الإذعان بالحق للخلق والإقبال إليه والقيام بوفائه، أو يمنع ذلك لما لا يتبين له الحق لئلا يكون لهم الاحتجاج والاعتلال عند اللَّه وإن لم يكن لهم حجة؛ وكقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) ليس على أنه إذا سألهم على ذلك أجرا يكون لهم عذر في رد ذلك وترك الإجابة له؛ إذ لله أن يكلفهم الإجابة والطاعة له بالمال وبغير المال.