يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) وإنما أراد به: محبة الاختيار والإيثار في الدِّين، لا محبة النفس واختيارها؛ بل كانت النفس تحب وتهوى ما يدعونه إليه؛ دليله قوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ). وليس الدعاء في قوله: (السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ) كما يقول بعض الناس: إنه إنما وقع في السجن؛ لأنه سأل ربه السجن فاستجيب له في ذلك؛ ولكن الدعاء في قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُ)، وهو كقول آدم وحواء: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا...) الآية. ليس الدعاء في قوله: (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا) لأنه: إخبار عما كان منهم، إنما الدعاء في قوله: (وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)، وكذلك قول نوح: (رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي).
وفي قوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ) دلالة على أن عند اللَّه لطفًا لم يكن أعطى يوسف ذلك؛ إذ لو كان أعطاه لكان كيدهن وشرهن مصروفًا عنه؛ حيث قال: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) ولو كان أعطي ذلك لم يكن لسؤاله ذلك معنى، فهذا ينقض على المعتزلة قولهم، حيث قالوا: إن اللَّه قد أعطى كلا قدرة كل طاعة وقوة كل خير والدفع عن كل شر، وقوله: (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ) أي: لا أحد يملك صرف كيدهن عني لو لم تصرفه أنت، وكذلك قوله: (وَإلا تَغفِر لِي وَتَرْحَمْنِي) وهو أبلغ في الدعاء من قوله: اللهم اغفر لي وارحمني.
وقوله: (أَصْبُ إِلَيْهِنَّ).
قَالَ بَعْضُهُمْ: أمل إليهن.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: قال: لو لم تصرف عني كيدهن لأتابعهن.
ويقال: الصبو: هو الخروج عن الأمر؛ يقال: كل مَنْ خرج عن دينه فقد صبا.
وبهذا كان المشركون يُسَمون النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: صابئا، أي: خرج مما نحن عليه.
وقال أبو بكر الأصم: الأصب: هو الأمر المعجب.
وقوله: (وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
أي: يكون فِعْلي فعْل الجهَّال لا فِعل العلماء والحكماء، إن لم تصرف عنى كيدهن.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤)