وعندنا: أنه خلقه عجولا حتى لا يصبر على حالة واحدة وإن كانت الحالة حالة نعمة ورخاء حتى يمل عنها ويسأم ويريد التحول إلى حالة هي دون تلك الحالة ويرضى بشيء دون، لكنه وإن خلقه على ما أخبر جعل في وسعه رياضة نفسه حتى يصير صبورًا حليمًا، وهو ما أخبر (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (١٩) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (٢٠) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (٢١) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (٢٢) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (٢٣). أخبر أنه خلقه هلوعًا، ثم استثنى المصلين؛ دل أنه بالرياضة يتحول عن الحالة التي خلقه إلى حالة أخرى، وهي حالة الحلم والصبر، وكذلك ما أخبر: (وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا)، كان كذلك في الابتداء، لكنه بالرياضة والعادة يصير سخيَّا جوادا، وكذلك ما قال: (وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ) ثم قال: (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ)، أخبر أن الأنفس أحضرت الشح، ثم أخبر أن من يوق شح نفسه فله كذا؛ دل بهذا كله أنه بالرياضة والعادة يحتمل التحول إلى حالة السخاء والجود بعد ما كان شحيحًا قتورًا بخيلا؛ فعلى ذلك ما ذكر من العجلة والهلع والجزع فيه يحتمل بالرياضة والعادة إلى أن يصير حليمًا صبورًا في الأمور غير ملول فيها، وليست المحنة إلا الرياضة والعادة، فأمره أن يروض نفسه ويعودها القيام بجميع ما أمره اللَّه، ويكفها عن جميع ما نهى عنه، فيعتاد اتباع أمره والانتهاء عن نهيه، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ).
يشبه أن يكونوا سألوا رسول اللَّه الآيات على رسالته أنه رسول، أو سألوه آيات على وحدانية اللَّه وربوبيته، فقال: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي)، من الوجه الذي يريد ربي ويبين لكم ذلك، لا من الوجه الذي تريدون أنتم وتسألونه.
وقال بعض أهل التأويل: سأريكم آياتي فيما نزل من العذاب فيهم وفي منازلهم، فلا تستعجلون أنتم العذاب على من كان قبلكم من الأمم بتكذيبهم الرسل، فإن سافرتم وضربتم في الأرض رأيتم آثار العذاب فيهم وفي منازلهم؛ فلا تستعجلون أنتم العذاب الذي يعد لكم الرسول، كأنه يخوفهم العذاب ويعد لهم إياه، فكذبوه في ذلك فقال عند ذلك ما قال، ويقولون أيضًا: (مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (٣٨) بأنا نعذب.
وجائز أن تكون الآية فيهم بتكذيبهم الساعة والقيامة وإنكارهم إياها، فقال: (سَأُرِيكُمْ آيَاتِي) التي تكون قبل وقوعها (فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ) وقوعها ووجوبها؛ دليله ما ذكر: (لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (٣٩) وقوله: (بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً...) الآية.