ويعيب عليهم لعبادتهم ما ينحتون هم بأيديهم ويتركون عبادة من خلقهم وخلق أعمالهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣)
قد انقطع حجاجهم لما قال لهم إبراهيم ما قال وأظهر سفههم، ففزعوا إلى تقليد آبائهم فقالوا: (وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (٥٣) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (٥٤) لم ينكر عليهم فعل آبائهم وعبادتهم الأصنام، ولكن أقر لهم بصنيع آبائهم، ثم جمعهم وآباءهم وأخبر: (أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) بعبادة الأصنام.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (٥٥)
لما علموا أن مثل هذا القول لا يقوله إلا من كان عنده حجة وبرهان، فقالوا: أجئتنا بما تقول بحجة، (أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ) تلعب بنا وتهزأ؟ وأخبر أنه جاءهم بالحق وبين لهم ذلك الحق فقال: (بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ (٥٦) لا الأصنام التي تعبدونها، أي: (رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) الذي يعرف بالدلالات والبراهين وآثار الصنعة في غيره، لا الذي أحدثتم أنتم واتخذتموه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ).
يحتمل: وإنا على جميع ما قال وكان منه من الحجاج وإقامة الحجج على ألوهية الله تعالى وتسفيه أُولَئِكَ في عبادة الأصنام - من الشاهدين، أو من الشاهدين على خلقها.
ويجوز أن يقال: الشاهد: المبين، وأنا على ذلكم من المبينين، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (٥٧)
إن الأصنام لا يقصد إليها بالكيد، لكن تأويله - واللَّه أعلم - لأكيدن لكم في أصناكم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) قال عامة أهل التأويل: إن إبراهيم إنما قال ذلك: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) من الأصنام إلى عيدهم؛ لأنهم كانوا يخرجون إلى عيدهم من الغد، فقال: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم (بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) منها إلى عيدكم.
وجائز أن يكون قوله: (لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ) عني، وكانوا في ذلك الوقت بحضرة الأصنام؛ ألا ترى أنه قال لهم: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، ومثل هذا الكلام لا يقال إلا بحضرة الأصنام؛ لأنه أشار إلى الأصنام فقال: (مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ)، فقال عند ذلك: (وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ)، أي: لأكيدن لكم في أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين عني؛ على التأويل الأول، يكون توليهم الأدبار عن الأصنام إلى عيدهم، وعلى التأويل الثاني يكون توليهم الأدبار عن إبراهيم، واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon