سليم.
فَإِنْ قِيلَ: لو كان ينفر عنه لكان لا يرتكبه ولا يأتيه.
قيل: ينفر عنه إلا أن الشهوة التي مكنت فيه وركبت تغلبه وتمنعه عن النفار عنه؛ ألا ترى أنه لو تفكر مثله في المتصلات به من الأم والابنة وجميع المحارم، لم يحتمل قلبه ذلك، وبمثله روي عن رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - أن رجلا أتاه فقال له: ائذن لي في الزنا؛ فقال: " أرأيت لو فُعِل بابنتكَ وأمكَ مثلهُ: أكنت تكرهُ؟ فقال: نعم؛ فقال له: اكْرَهْ لِغَيرِكَ ما تكرهُ لنفسك ": دل ذلك أنه قبيح في الطبع والعقل جميعًا إلا أن الشهوة تمنعه عن النفار عنه.
وفيه اشتباه الأنساب والمعارف التي جعلت فيما بين الخلق؛ حتى لا يهتدي أحد إلى معلم يعلمه الحكمة والآداب ومعالم السنن ولا الدعاء بالآباء، وارتفع التواصل وحفظ الحقوق التي يقوم بعض لبعض، والشفقة التي جعل لبعض على بعض: من التربية في الصغار، وحقوق المحارم وغيرهم، وبها امتحن البشر والعالم الصغير، وبطل خلق ما ذكر من الإنشاء لهذا العالم، وتسخير ما ذكر ما في السماوات والأرض لهم؛ فهذا كله يدل على قبح الزنا ونهايته في الفحش والمنكر؛ حتى لا يعرف هذا العالم قبحه ونهاية فحشه، وإنما يعرفه العالم الروحاني الذي لم يكن فيهم هذه الشهوة ولم يمتحنوا بها، وأمَّا هذا العالم الذي جعلت فيهم الشهوة لا يعرفون قدر قبحه وفحشه؛ لما تغلبهم وتمنعهم عن النفار عنه والنظر في معرفة قبحه؛ لهذا - واللَّه أعلم - ما شدد اللَّه - تعالى - أمر الزنا وغلظ في أحكامه ما لم يغلظ بمثله في غيره من الإجرام وعظم شأنه من بين سائر الآثام.
ثم الذكر إنما جرى في الحرائر بما ذكرنا فهو بالرجال من الأحرار إن لم يكن أكثر فما يكون دونه؛ لأن العذر فيهن أكثر وهي الشهوة التي تغلب وتمنع عن النفار عنه، وفي الرجال أقل؛ فالعذر فيهم أقل؛ ألا ترى أنه ذكر الحد في الإماء بقوله: (فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، ولم يذكر في العبيد شيئًا؛ فيلزم للعبد ذلك الحد إذا ارتكبه؛ فعلى ذلك ما ذكر من الحد في النساء والقذف، فهو في الرجال مثله.
ثم أجمعوا على أن على قاذف الأمة التعزير ولا حد عليه، وقد سمى الزوجة وإن كانت محصنة أمة، وقال: (فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ)، وقال: (وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ)، سمى ملك اليمين:


الصفحة التالية
Icon