تجادلوهم؛ فإنكم وإن جادلتم إياهم فلا يؤمنون، وهو كقوله: (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي)، قوله: (إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ) ليس على الثنيا من الأول، ولكن ابتداء نهي؛ أي: لا تخشوهم واخشوني، فعلى ذلك يحتمل الأول مثله.
والثالث: جائز أن يكون قوله: (وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ...) إلى آخر ما ذكر: هي المجادلة الحسنة التي أمروا بها؛ لأن تلك مما يقبلها العقل والطبع، وبها جاءت الكتب والرسل؛ فلا سبيل إلى ردّ ذلك.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) أي: جادلوا الذين يصدقون منهم ولا يكتمون نعت مُحَمَّد وما في كتبهم من الحق، فأمَّا الذين تعلمون أنهم يكتمون ولا يصدقون فلا تجادلوهم، وهو كقوله: (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) والأوّل كقوله: (تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...) الآية.
والمجادلة الحسنة هي التي جاء بها الكتاب ويوجبها العقل.
ثم فيه دلالة جواز المناظرة والمجادلة مع الكفرة في الدِّين، وكذلك - قوله تعالى -: (وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)، ليس كما يقول بعض الناس: إنه لا يجوز معهم المناظرة، وذلك لجهلهم بحجج الإسلام وبراهينه؛ على ما ينهون عن المجادلة والمناظرة معهم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: من لا عهد معهم فجادلهم بالسيوف، ومن كان معه عهد وكتاب فجادلهم بالحجج.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: هو منسوخ بقوله: (قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ...) الآية.
ومنهم من يقول: من أدَّى إليكم الجزية فلا تغلظوا له القول وقولا لهم قولا حسنًا، ومن لم يؤدّ فأغلظوا لهم وجادلوهم بالسيوف، واللَّه أعلم.
وقوله: (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (٤٧) أي: كما أخبرناك في الكتاب، فقل لهم، أو جادلهم.
وقوله: (فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ) يخرج على وجهين:
أحدهما: الذين آتيناهم الكتاب فيتلونه حق تلاوته، فهم يؤمنون به؛ على ما ذكرنا في آية أخرى: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ)، فتكون