ومثل هذا لا يدركه البشر ولا يستفاد منهم؛ إذ لا يبلغه علم البشر ولا يدرك بالقياس بالسابق من الأمور، فإذا كان على ما أخبر دل أنه باللَّه علم ذلك، وبوحي منه إليه عرف ذلك.
وهم جائز أن يستدلوا بما كان من قبل من غلبة فارس على الروم أن يقولوا: تغلب فارس على الروم بما شاهدوه مرة أو بوجوه أخر يستدلون بذلك؛ من نحو أن يقولوا: إنهم أهل كتاب وعبادة يكونون مشاغيل بالنظر فيها والعمل ببعض ما فيها لا يتفرغون للقتال والحرب.
أو أن يقولوا: إنهم نصارى - أعني: أهل الروم - وليس في سنتهم ومذهبهم القتال والحرب، فيستدلون بمثل هذه الوجوه على أن لا غلبة تكون لهم ولا ظفر.
وأمَّا أهل الإسلام ليس لهم شيء من تلك الوجوه ولا بغيرها وجه الاستدلال بغلبة أُولَئِكَ، فما قالوا ذلك إلا وحيًا من اللَّه إليه وإعلامًا منه إياه، فكان في ذلك أعظم آية لصدق رسوله وأكبرها فيكون فرح المؤمنين وذكر نصر اللَّه بإظهار تلك الآية في تصديق رسوله؛ إذ نصر رسوله حيث أظهر صدقه ورسالته.
وقوله: (غُلِبَتِ) و (غَلَبَت): (غُلِبَتِ) على الماضي؛ لما كان من غلبة فارس على الروم، و (غَلَبَت) بالفتح على المستقبل؛ أي: تغلب الروم على فارس، وهو كقوله: (فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا)، على الأمر في المستقبل، (بَاعَدَ بين أسفارنا) على الخبر، فعلى ذلك الأول.
وقوله: (فِي أَدْنَى الْأَرْضِ) قيل: أقرب إلى أرض فارس.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (أَدْنَى الْأَرْضِ) أي: أدنى أرض الشام.
وقيل: الأرض التي تلي فارس، واللَّه أعلم.
وفي قوله: (وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ) وفي قوله: (وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ) وجوه على المعتزلة:
أحدها: يقال لهم: وعد أن يغلب الروم على فارس، وقد أراد أن يخرج ما وعد حقًا صدقًا أم لا؟ فإن قالوا: لا، فقد أعظموا القول وأفحشوه؛ حيث زعموا أنه أراد ألا يفي بما وعد أنه يكون.
وإن قالوا: نعم، قيل: دل أنه أراد ما فعلوا، وإن كان الفعل منهم فعل معصية