فأمَّا على السؤال والدعاء فهو - واللَّه أعلم - لأنهم سئموا وملوا؛ لكثرة ما أنعم الله عليهم، ورفع عنهم المؤن، وطال مقامهم فيها، سألوا ربهم أن يحول ذلك عنهم؛ سفها منهم وجهلا، وكان كقوم موسى: حين أنزل عليهم المن والسلوى، ورفع عنهم المؤنة سئموا وملوا في ذلك، وقالوا (لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا)، وما ذكروا، فعلى ذلك هَؤُلَاءِ.
ومن قرأ (بَعُدَ بين أسفارنا)؛ على الشكاية - شكا إلى ربه لما ذهب عنهم السعة والخصب، وأصابهم الجهد والمؤنة.
وأمَّا قوله: (بَاعَد) على الخبر؛ فكأنه كانت فيهم، وذلك كله منهم: فيهم من سأل تحويله، وفيهم من شكا إذا زال ذلك وتحول، وفيهم من أخبر بزواله.
وعلى ذلك يخرج قول موسى لفرعون، حيث قال: (قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ)، لا أنه كان أحدهما؛ فعلى ذلك الأول وما يشبه ذلك، واللَّه أعلم.
وقوله: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ).
أي: أهلكناهم كل إهلاك؛ حتى صاروا عظة وعبرة لمن بعدهم.
وقال: (فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ) للناس؛ على حقيقة الحديث، يتحدثون بأمرهم وشأنهم.
(وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ).
أي: فرقناهم كل تفريق، أي: في كل وجه التفريق؛ حتى وقع بعضهم بمكة، وبعضهم بالمدينة، وبعضهم بالشام، وبعضهم بالبحرين وعمان، ونحوه واللَّه أعلم.
وقوله: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ).
يحتمل أن يكون الصبار والشكور هو المؤمن؛ كأنه قال: إن في ذلك لعبرًا وعظات لكل مؤمن.
أو آيات لكل صبار على طاعة اللَّه وأمره، شكور لنعمه.
أو آيات لكل صبار على البلايا والمحارم، شكور لنعم اللَّه.
ثم يخرج على وجهين:
أحدهما: في الاعتقاد له.
والثاني: في المعاملة.
يعتقد الصبر لربه على جميع أوامره ونواهيه، والشكر له على جميع نعمائه،


الصفحة التالية
Icon