قال عامة أهل التأويل: أي: الكفرة جعلوا لله - تعالى - من عباده أنثى، أي: بنتًا.
وقال الزجاج: (جُزْءًا) أي: بنتًا، وقال: إن الجزء عند بعض العرب البنت؛ لأن الكفرة قد اختلف أنواع كفرهم، وهم مختلفون في كفرهم؛ يقول الثنوية بالاثنين، يقولون: إن اللَّه - تعالى - هو خالق الخيرات، وخالق الشرور غيره؛ على حسب ما اختلفوا في ذلك الغير ما هو؟ فهَؤُلَاءِ الثنوية جعلوا لله - تعالى - من عباده جزءًا وهو الخيرات، ولم يجعلوا له الجزء الآخر، ومشركو العرب جعلوا له فيما رزقهم جزءًا لله - تعالى - وجزءًا لشركائهم؛ حيث قال: (وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا)، فهَؤُلَاءِ جعلوا له جزءًا مما رزقهم، وهو الظاهر، وفريق آخر جعلوا له جزءًا من عباده وهو الإناث، ولم يجعلوا لله البنين، كقوله - تعالى -: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ)، فجعل الجزء له على ما ذكر أظهر مما ذكره أهل التأويل وصرفوه إليه، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ) أي: كفور لنعمه (مُبِينٌ) أي: يبين كفرانه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (١٦) هو على الإضمار؛ كأنه يقول: أم يقولون: اتخذ مما يخلق بنات لنفسه وأصفاكم بالبنين، وهو ما ذكر في آية أخرى: (وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ).
ثم قوله - تعالى -: (أَمِ اتَّخَذَ) أي: قالوا: بل اتخذ مما يخلق بنات.
يذكر في هذه الآيات سفه أهل مكة وشدة تعنتهم؛ لأنهم قوم لا يؤمنون بالرسل، وما ذكروا من اتخاذ الولد، وما ادعوا بأن الملائكة بنات اللَّه، وما أقروا حين سئلوا: مَن خلق السموات والأرض؟ أن اللَّه هو خالق ذلك كله مما لا سبيل إلى معرفة ما قالوا وادعوا إلا بالرسل، وهم ينكرون الرسل، فكيف ادعوا ما ادعوا وهم ينكرون خبرهم؛ لأن من ادعى ولدًا لغائب لا يعلمه إلا بخبر صادق، وكذلك معرفة الملائكة إنما هو بخبر يأتيهم، ثم هم ينكرون الأخبار والرسل؛ فتتناقض دعواهم وتضمحل، على ما ذكرنا.
ثم أخبر عنهم ما يظهرون من الحزن عندما يولد لهم من الإناث، وما يلحقهم من الكراهة في ذلك بقوله - تعالى -: (وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (١٧).