ثم قال جعفر بن حرب للخروج عن هذا الإلزام: إنما وسع على من وسع؛ لأن التوسيع له أصلح وأخير، وضيق على من ضيق؛ لأن التضييق له أصلح وأخير في الدِّين؛ فيقال: لو كان التوسيع والتضييق لأجل الأصلح لهم في الدِّين والأخير، لم يكن ما ذكر من رفع بعض على بعض وتفضيل بعض على بعض في الرزق معنى، وقد أخبر أنه رفع بعضهم على بعض درجات، ولو كان الكل في ذلك سواء، لا يكون لبعض على بعض في ذلك فضل ولا درجة، ولأنه لو كانوا على ما يقولون هم: إنه يعطي كُلَّا ما هو الأصلح في الدِّين وأخير لهم في ذلك، فهَؤُلَاءِ الفراعنة منهم والرؤساء لو لم يكن لهم تلك السعة وتلك الأموال لا يتهيأ لهم فعل ما فعلوا ومنع الناس عن اتباع رسل اللَّه - عليهم السلام - وعلى ذلك فرعون إنما ادعى لنفسه الألوهية بما أعطي له من الملك والسعة ما لو لم يكن له ذلك لم يدع ذلك، وكان ذلك أصلح في الدِّين؛ فدل أن اللَّه تعالى قد يترك ما هو الأصلح لهم في الدِّين، وأن ليس عليه حفظ الأصلح لهم في الدِّين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا).
قَالَ بَعْضُهُمْ: قوله: (سِخْرِيًّا) -بكسر السين-: الاستهزاء، وتأويله: أنه علم منهم أن بعضهم يستهزئ ببعض، ويهزأ بعضهم بعضًا، أعطى ذلك لهم؛ ليكون منهم ما علم منهم من الهزء والسخرية، لا أن يكون يرفع بعضهم على بعض؛ ليأمر بما علم أنه يكون منهم، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ).
يحتمل قوله: (وَرَحْمَتُ رَبِّكَ): النبوة؛ أي: ما اختار رسول اللَّه - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - من الرسالة والنبوة خير مما يجمع أُولَئِكَ الكفرة.
ويحتمل: ما يدعوهم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - ويختار لهم من التوحيد والدِّين خير مما يجمعون هم من الأموال.
ويحتمل: ما وعد لأهل الإيمان من الثواب والكرامة بإيمانهم -وهو الجنة- خير مما يجمعون، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (٣٣)
أي: لولا أن يصير الناس كلهم على ملة
واحدة - وهو دين الكفر - وإلا لجعلنا للكفار ما ذكرنا.
في الآية دلالة التزهيد في الدنيا؛ لأنه ذكر أنه أعطى الكفار ما ذكر، لولا رعاية قلوب