ولا أحد يقصد قصد عبادة الشيطان، لكن من عبد شيئًا دون اللَّه إنما يعبده بأمر الشيطان، فإذا عبده بأمره فكأنه عبده؛ هذا وما ذكرنا كله يبطل مجادلة الكفار فيما خاصموا، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: ضرب المثل لعيسى - عليه السلام - هو أن اللَّه - تعالى - لما ذكر عيسى - عليه السلام - في القرآن قال مشركو العرب من قريش لمُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -: ما أردت بذكر عيسى؟ وقالوا: إنما يريد مُحَمَّد أن نحبه كما أحبت النصارى عيسى وعبدته، فقالوا: (أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ) فلا يصنع مُحَمَّد ذلك بآلهتنا، فواللَّه لهم خير من عيسى، أو ما قالوا؛ فقال اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا) أي: إلا ليجادلوك بالباطل، وهو قول قتادة.
ويحتمل أن يكون ما ذكر من ضرب المثل بابن مريم - عليهما السلام - من قومه - أعني: عيسى - لا من قوم مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - وذلك أن قومه قد اختلفوا فيه؛ فمنهم من قال: إنه إله وإنه رب، ومنهم من قال: إنه ابن الإله، ومنهم من قال: إنه وأمه إلهان، ونحو ذلك من الاختلاف الذي كان بينهم فيه، فيكون قوله: (وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا) قال قومه على ما ذكروا فيه، ثم قال: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) أي: يعرضون عن عيسى ويضجون على ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
أو أن نكف ونمسك عن بيان ذكر المثل الذي ذكر في الآية؛ لما لا حاجة إلى ذلك، وهو شيء ذكره أُولَئِكَ الكفرة، واللَّه أعلم.
ثم قوله - تعالى -: (إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ) قرئ برفع الصاد وكسرها.
قَالَ الْقُتَبِيُّ وأَبُو عَوْسَجَةَ: (يَصِدُّونَ) بالكسر: يضجون، والتصدية منه، وهو التصفيق، ومن قرأ بالرفع يقول: يعدلون ويعرضون.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) هو يخرج على الوجهين اللذين ذكرناهما، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (٥٩) أي: عبرة وآية لبني إسرائيل؛ لما كان هو مولودًا من غير والد، ولما كان يحيي الموتى، ويبرئ الأكمه والأبرص، وما كان منه من تكليمه للناس وهو في المهد، وغير ذلك من الآيات