أن ليس على المرء الشكر إلا بعد إعطاء جميع ما به يشكر حتى لا يبقى عنده مزيد؛ فيكون مثل هذا الدعاء من العباد ردًّا على قولهم؛ لأنهم يسألون ما يعلمون أن ليس عنده ذلك، وأنّه لا يملكه، وكذلك قوله: (وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ)، ومن قولهم أنه ليس عنده ما يغيثه، فيخرج دعاؤهم على ما ذكرنا على مذهبهم، وباللَّه العصمة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (١٦) كأنْ لهم عملان: حسنات وسيئات، فأخبر أنه يتقبل عنهم حسناتهم، ويجزيهم جزاءها، ويتجاوز عن سيئاتهم ويكفرها، ولا يجزيهم جزاءها؛ فضلا منه ورحمة، والمراد من الأحسن: الحسن، ويجوز ذلك في اللغة.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ) أي: ذلك الذي أخبر وذكر أنه يفعل لهم هو وعد الصدق يفي ذلك لهم، وهو قادر على وفاء الوعد، ومن يكون منه الخلف في الوعد في الشاهد إنما يكون لأحد وجوه ثلاثة:
إما لعجز يمنعه عن وفاء ما وعد.
أو جهل وبدو شيء رآه فرجع عن ذلك.
أو حاجة.
واللَّه - سبحانه وتعالى - يتعالى عن ذلك كله؛ للقدرة الذاتية، والغنى الذاتي، والعلم الأزلي، واللَّه الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٧) إلى آخر ما ذكر.
خرج أهل التأويل هذه الآية في عبد الرحمن بن أبي بكر - رضي اللَّه عنهما - ووالدته فلانة، والآية الأولى في أبي بكر الصديق ووالديه، وهي قوله: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ) فيقولون: إن أبا بكر الصديق - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أطاع والديه وأمر بالإحسان إليهما، والشكر لهما، وسأل التوفيق في الشكر له به على ما أنعم عليه وأنعم على والديه، وعبد الرحمن ابنه قد عصى والديه وخالفهما فيما يدعوانه إليه، وقال لهما قولا [رديًّا]؛ حيث قال: (أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ) من القبر وأحيا (وَقَدْ خَلَتِ) من قبلي من القرون فلا أراهم بعثوا، ونحو ذلك من الكلام.
إلا أن هذا لا يصح؛ لأن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق في أجلة الصحابة - رضي