وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ) قوله: (ذَلِكَ) أي: ذلك الذي أمرتهم به من أول ما ذكر من قوله - تعالى -: (فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ...) إلى قوله: (حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا) واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ) لأوليائه من أعدائه بلا قتال، ولا نصب الحروب فيما بينهم، ثم انتصاره منهم يكون مرة بأن يهلكهم إهلاكًا، ويقهرهم قهرًا، ومرة ينتصر منهم بأن يسلط عليهم أضعف خلقه وأخسهم، فيقهرهم بأضعف خلقه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ) أي: يمتحن بعضكم بقتال بعض، وبأنواع المحن: أنشأ اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - هذا البشر في ظاهر الأحوال بعضهم مشابهًا لبعض غير مخالف بعضهم بعضًا فإنما يظهر الاختلاف بالامتحان بأنواع المحن على اختلاف الأحوال، فعند ذلك يظهر المصدق من المكذب، والمحق من المبطل، والموافق من المخالف، والمتحقق من المضطرب، والموقن من الشاك؛ على ما ذكر - تعالى -: (وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ)، (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً)، (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، وغير ذلك من الآيات التي ذكر الاختلاف والامتحان فيها باختلاف الأحوال التي عند ذلك يظهر ما ذكر من التصديق والتكذيب والتحقيق وغيره.
ثم لو كان - جل وعلا - انتصر لأوليائه من أعدائه بما ذكرنا بأن ينصرهم على أعدائهم نصرًا بلا امتحان وكلفة منه لأوليائه - لكان التوحيد له والتصديق لرسله بحق الاضطرار، لا بحق الاختيار؛ لأنهم إذا رأوا أنهم يستأصلون ويهلكون إهلاكًا بخلافهم إياهم لكانوا لا يخالفونهم؛ بل يوافقونهم مخافة الهلاك والاستئصال، فيرتفع الابتلاء والامتحان عنهم، فلا يظهر المختار من غيره؛ لذلك كان ما ذكرنا، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ سَيَهْدِيهِمْ) هذا يخرج على وجهين:
أحدهما: يقول: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ) فهزموا وغلبوا وهربوا في وقت أو في قتال، (فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) التي كانت منهم من الجهاد مع الأعداء وغير ذلك من الأعمال التي كانت لهم، (سَيَهْدِيهِمْ... (٥) أي: يوفقهم ثانيًا -مرة أخرى- للقتال والنصر لهم على أعدائهم في الدنيا، ويدخلهم في الآخرة الجنة.
والثاني: أي: (وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ) في الآخرة، (سَيَهْدِيهِمْ) في الآخرة الجنة.