الَّذِينَ آمَنُوا...) الآية.
وقيل: المراد من الآية أن يتأذى بشؤم تلك المعصية إلى أن يهون عليه ارتكاب الكبيرة، يستحقرها حتى يخف عليه الكفر فيكفر؛ فتصير المعصية الأولى -وإن قلت- سببًا لحبوط ثواب أعماله، فإن أساس كل خطير حقير.
ونحن نقول: إن المعصية لا تحبط الطاعة، ولكن هو استخفاف بالنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ -، ونحو ذلك.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (٣) دلت هذه الآية أن الآيتين اللتين تقدم ذكرهما من قوله - تعالى -: (لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ)، وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ)، وقوله: (وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ) في أهل النفاق، فأما أصحابه الذين صحبوه وآمنوا به، وعرفوا أنه رسول، رب العالمين، فلا يحتمل أن يكون منهم ما ذكر من رفع الصوت عنده، وجهر القول له، والنداء له باسمه من بُعْدٍ، إنما ذلك به فعل من ذكرنا من أهل النفاق والشرك، فأما الذين آمنوا به وصدقوه وعرفوا أنه رسول فلا يحتمل منهم سوى التعظيم له، والتوقير، والتشريف؛ لما عرفوا أن نجاتهم وشرفهم وعزهم في الدنيا والآخرة بتعظيمه وتوقيره، فكيف يحتمل عنهم ذلك؟ بل كانوا لا يتجاسرون التكلم بين يديه فضلا من أن يرفعوا أصواتهم، ويقدموا بين يديه، أو النداء من بعد، والله الموفق.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى) هذا وصف المؤمنين، امتحن قلوبهم للتقوى فوجدها صافية خالصة لذلك، والامتحان - هاهنا - هو التصفية والإخلاص؛ يقال: امتحن الذهب: إذا أخلص وصفى الصافي منه والخالص من غيره.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ) ظاهر.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (٤) هذا وصف من ذكرنا من أهل الشرك والنفاق.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: إن نفرا من الأعراب جاءوا، وقالوا: ننطلق إلى هذا الرجل - يعنون: محمدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - - فإن يكن رسولا فنحن أسعد الناس به، وإن يكن ملكًا نعيش في جناحه، فأتوا إلى النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فجعلوا ينادونه من وراء الحجرات: يا مُحَمَّد؛ فنزلت هذه الآية.