ولكن لم يصيروا بغاة في تلك الحال، وهو القتال الذي أمر اللَّه تعالى فيه أن يصلح بينهم، وإنما يصيرون بغاة بأن لم يجيبوا إلى الصلح ولم يقبل أحد من الطائفتين الصلح، وحينئذ أمر بالقتال معهم مطلقًا من غير قيد، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) ذكر أنها وإن فاءت ورجعت إلى ما أمر اللَّه - تعالى - به لا يتركوهما كذلك بغير صلح، ولكن أصلحوا بينهما وألفوا حتى يتآلفوا؛ لأن أهل الإسلام ندبوا إلى التآلف بينهم والجمع، وشرط فيه الصلح بالعدل، فهو - واللَّه أعلم - يقول: إنكم وإن رأيتم صلاحهم في الصلح فلا يحملنكم ذلك على الصلح الذي ليس فيه عدل، ولكن أصلحوا بينهم بالعدل، ولا تجاوزوا الحدّ، وأكد ذلك قوله: (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في الصلح (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: العادلين.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٠) أمر اللَّه - عَزَّ وَجَلَّ - بإصلاح ذات البين بين المؤمنين بقوله: (وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ)، وأمر بالإصلاح بين الطائفتين من المؤمنين إذا اقتتلوا وتنازعوا بقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) وأمر بالإصلاح بين الآحاد والأفراد بقوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ)؛ لأن الإيمان يوجب التآلف، وبالتآلف ندبوا، وإليه دعوا، وبه منَّ اللَّه - تعالى - علينا؛ حيث قال: (مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)، أمر بالتأليف والاجتماع، ونهاهم عن التفرق والاختلاف، وأمر المؤمنين جملة أن يصلحوا ذات بينهم إذا وقع بينهم تنازع واختلاف واقتتال على ما ذكر، واللَّه أعلم.
ثم من الناس من استدل بقوله - تعالى -: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) على أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: إنه ذكر في أول الآية: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا)، وقال في آخره: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) فدل أن اسم الطائفة يقع على الواحد فصاعدًا، فقال: فيستدل بهذا على أن في قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ)، يراد به الواحد؛ فيدل على لزوم خبر الواحد العدل.
لكن عندنا ما ذكر أنه أمر بإصلاح ذات البين بين جملتهم، وأمر بالصلاح بين فريقين، وأمر بذلك بين الآحاد والأفراد، وليس في قوله: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ) دلالة أنه أراد به