إلى قوله - تعالى -: (وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي...) الآية.
فهذه الخصومة بينهم وبين قرنائهم، وهم الشياطين (وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا)، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ): خصومتهم ما ذكرنا، قالت الأتباع: (رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا)، وما ذكر من لعن بعضهم بعضًا ومن تبري بعض عن بعض، فقال - تعالى عَزَّ وَجَلَّ -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: قدمت إليكم من الوعيد في الدنيا، فانقطعت خصوماتكم هذه؛ أي: بينت في الدنيا ما يلحق بمن ضل بنفسه، ومن ضل بغيره.
كأن هَؤُلَاءِ الكفرة يطلبون وجه الاعتذار بما لا عذر لهم؛ فلذلك يقال لهم: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ) أي: أرسلت إليكم الرسل معهم الكتب وفيها الوعيد، فلم تقبلوا ذلك كله.
فَإِنْ قِيلَ: قال هاهنا: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ)، وقال في موضع آخر: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، قيل: هو يخرج على وجوه: أحدها: أن قوله: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، في أهل القبلة، وهو في المظالم التي كانت بينهم في الدنيا.
والثاني: ما قَالَ بَعْضُهُمْ بأن إحدى الآيتين في موضع، والأخرى في موضع، فيؤذن لهم بالكلام فيه حتى يكون جمعًا بين الآيتين، وهو كقوله - تعالى -: (فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ)، وقال في آية أخرى: (وَلَا يَتَسَاءَلُونَ)، وقال في آية أخرى: (يَتَسَاءَلُونَ. عَنِ الْمُجْرِمِينَ. مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ)؛ فعلى ذلك هذا.
والثالث: جائز أن يكون قوله - تعالى -: (لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ) في الدِّين فيما بينهم وبين ربهم في دفع عذاب اللَّه عن أنفسهم، وذلك لا يملكونه ولا ينتفعون به، وأما قوله - تعالى -: (ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)، فيما بين أنفسهم في المظالم والغرامات، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ... (٢٩) هذا يحتمل وجوهًا:
أحدها: ما يبدل ما استحق كل واحد منكم من العذاب والثواب ما سبق مني من الوعد والوعيد في الدنيا بأن أجعل جزاء الكافر الجنة، وجزاء المؤمن النار؛ إذ قد سبق في


الصفحة التالية
Icon