ويحتمل: ففروا إليه في جميع حوائجكم، ولا تطلبوا شيئًا من ذلك من غيره؛ فإنه هو القادر عليها حقيقة؛ فيكون في الآية ترغيب في الرجوع إليه في الحوائج، وقطع الطمع عن غيره، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) يحتمل وجوها: يحتمل: إني نذير لمن عبد دونه، أو سمى دونه إلها، (مُبِينٌ) آيات ألوهيته ووحدانيته.
ويحتمل: إني لكم منه نذير مبين؛ لما يقع لكم به النذارة والبشارة.
وقال أبو بكر الأصم: إني لكم منه نذير مبين بما نزل بمكذبي الرسل بتكذيبهم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١).
أي: لا تسموا مع ألوهية اللَّه تعالى لأحد دون اللَّه: ألوهية، ولا تسموا دون اللَّه: إلها.
أو يقول: لا تعبدوا دون اللَّه إلها آخر؛ أي: معبودا آخر؛ فإنه لا يستحق دون اللَّه أحد للعبادة، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) قد ذكرناه.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) لم يذكر في هذا الموضع القول منهم: إنهم قالوا للرسول: إنك ساحر أو مجنون، ولكن إن لم يكن مذكورا في ظاهره، لكن ما ذكر أن أوائلهم كانوا يقولون لرسلهم ذلك - دلالة أنهم قد قالوا: إنه ساحر، وإنه مجنون؛ حيث قال: (كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) يصبر رسوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - على أذاهم بنسبتهم إياه إلى السحر والجنون؛ كقوله تعالى: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ)، وغير ذلك من الآيات التي فيها الأمر بالصبر على أذاهم، واللَّه أعلم.
ثم قوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ).
قال أبو بكر الأصم: إنما قالوا: ساحر أو مجنون؛ لأن السحر والجنون عندهم واحد؛ كقول فرعون لموسى - عليه السلام - لما أتى به من الآيات: (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا)؛ فلذلك قالوا مرة: ساحر، ومجنون مرة.
ولكن هذا فاسد؛ فإنه لا يحتمل أن يكون الجنون والسحر عندهم واحدًا؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم في كل شيء غايته، والمجنون هو الذي بلغ في الجهل غايته، ونسبوهم إلى السحر؛ لما أتى لهم من الآيات ما عجز الناس عن إتيان مثلها، وقد عرفوا هم أنها آيات -أعني: رؤساءهم وأئمتهم- لكن قالوا: إنها سحر؛ على إرادة التلبيس