يجوز أن يخلق الكفرة الذين علم منهم: أنهم لا يؤمنون للعبادة؛ إذ خلقه، عن اختيار وإرادة، فإذا خلقهم وأراد منهم العبادة لابد أن توجد منهم، وقد علم منهم أنه لا توجد؛ فيصير كأنه أراد تجهيل نفسه، وهذا محال؛ فدل أن المراد منه الخصوص، وقد خص منه البعض بلا خلاف؛ فإن الصغار والمجانين قد خصوا، بأنه لا يتحقق منهم العبادة؛ فجائز أن يخص منه الكفرة الذين علم منهم أنهم لا يؤمنون، واللَّه أعلم.
ويحتمل أن المراد منه الأمر بالعبادة، أي: ما خلقتهم إلا لآمرهم بالعبادة والتوحيد.
وهذا التأويل أقرب إلى العمل بالعموم؛ فإنه يدخل فيه العقلاء من الجن والإنس دون الصغار والمجانين.
ويجوز أن يأمر بشيء ولا يريد تحصيل المأمور به، وصيرورة المأمور مطيعًا له؛ بل يريد أن يصير عاصيا فيدخل النار، بخلاف إذا خلقه للعبادة وأرادها منه لا يجوز ألا توجد، وحقيقة هذا تعرف في كتاب التوحيد: أنه خلق الإيمان والعبادة؛ إن علم منه أنه يعبد ويختار العبادة له، فأما من علم منه اختيار الضلال والغواية، وصرف العبادة إلى غيره، فإنه خلقه على ما علم منه أنه يختار ويفعل؛ لقوله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ...) الآية.
وقال قائلون: لم يرد بقوله تعالى: (لِيَعْبُدُونِ) حقيقة العبادة التي، هي فعل العبد على وجه الاختيار، ولكن معناه: وما خلقت الجن والإنس إلا وقد جعلت في كل أحد منهم دلالة وحدانيتي ودلالة صرف العبادة إليَّ، والقيام بالشكر لي فيما أنعمت عليهم من أنواع النعم ما لو تأملوا فيها ونظروا، تدلهم على ما ذكرنا من العلم بالوحدانية لي، والقيام بالعبادة والشكر، واللَّه أعلم.
وعلى هذا التأويل تكون الآية عامة، لا خصوص فيها؛ لأن خلقة كل أحد منهم على أي وصف كان دلالة ما ذكرنا، واللَّه الموفق.
ويحتمل أيضًا: وما خلقت الجن والإنس إلا على خلقة تصلح للمحنة بالأمر والنهي، والوعد والوعيد، ولتحقيق فعل ذلك بما ركب فيهم العقل، وجعل مفاصلهم لينة، قابلة الأفعال، تصلح للخدمة: من الركوع، والسجود، والقيام، والقعود، ونحوها، على خلاف غير هَؤُلَاءِ من المخلوقات؛ فإنها خلقت على خلقة تصلح لمنافع الممتحنين، لا على وجه يصلح للمحنة، واللَّه أعلم.
ثم في العبادة خصوصية معنى، ليس ذلك في الطاعة والخدمة، وغير ذلك من الأفعال؛ كقوله تعالى: (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ)؛ حيث لم يجز


الصفحة التالية
Icon