لله تعالى صنعا في أفعال العبد وهو الخلق والإنشاء؛ حيث سمى نفسه: رازقا، وهم يرزقون بتلك المكاسب والأسباب، وأكثر أرزاقهم بأفعالهم، دل أن له فيها صنعا؛ حتى تصح إضافة ذلك إليه وتسميته: رازقًا، ولا يجوز هذا الاسم لغيره، واللَّه أعلم.
والثاني: يحتمل الإضافة إليه؛ لأنه يرزقهم بما جعل في تلك الأسباب والمكاسب من اللطف لا بأنفس الأسباب؛ لأنهم يزرعون ويطرحون البذر فيها، فيهلك ذلك البذر، فيها، وكذلك يسقون الأرض، ويهلك ذلك الماء فيها.
ثم إن اللَّه تعالى جعل بلطفه ورحمته في ذلك من اللطف ما يصير ذلك رزقا لهم بعد ذهاب عينه والقوة التي جعلت فيه، وكذلك ما جعل ذلك من الصلاح، والنضج، والطبخ، وما يرجع إلى الإصلاح لذلك، والأكل، والمضغ، والابتلاع، ونحو ذلك، ليس في ذلك إلا امتلاء البطن، وفي ذلك فساد، فجعل فيه من القوة ما ينشر في البدن والأطراف قوة؛ فيبقون بتلك القوة فيهم الحياة والبقاء، لا بنفس الرزق، وهو ما وصف اللَّه تعالى: (إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) بتلك القوة يحيون، وبها يبقون.
ثم قوله تعالى: (الْمَتِينُ) قيل: المتين هو وصف ونعت لتلك القوة، فيجوز وصف تلك القوة بالمتانة، فأما اللَّه - سبحانه وتعالى - لا يوصف أنه متين، وهو كقوله تعالى: (ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ)، وصف العرش بالمجيد، والعرش غيره؛ فعلى ذلك القوة التي جعل فيها ما ذكرنا غيره يجوز أن توصف بما ذكرنا من المتانة، وهي القوة التي لا يملكها الخلق، ولا يدركون ذلك اللطف الذي جعل في ذلك، واللَّه أعلم.
وقَالَ بَعْضُهُمْ: (ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي: ذو البطش الشديد فيما أهلك الأمم الخالية، واللَّه أعلم.
وقوله - عَزَّ وَجَلَّ -: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) كأنهم استعجلوا نزول العذاب، فنزلت هذه الآية على أثر سؤال العذاب؛ كقوله تعالى: (سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ)، وقوله تعالى: (فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ)، فقال عند ذلك: (فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ)، أي: لهم نصيب من ذلك العذاب مثل نصيب أوائلهم من العذاب؛ فيكون على التمثيل، كما يقال: حذو النعل بالنعل، وحذو القذة بالقذة، ويقال: صاع بصاع، وكيل بكيل؛ أي: يكال عليه مثل ما كيل لغيره، ونحو ذلك من الأمثال التي تضرب؛ فعلى ذلك ما ذكرنا من الذنوب، واللَّه أعلم.


الصفحة التالية
Icon