ودل جريان ما ذكر من الليل والنهار والشمس والقمر على سياق واحد وسنن واحد من أول ما كانا إلى آخر ما يكونان على أن منشئهما عليم مدبر علمًا ذاتيًّا وتدبيرًا ذاتيًّا ليس بمستفاد ولا مكتسب.
ودل سيرهما وجريانهما في يوم واحد وليلة واحدة مسيرة كذا وكذا عاما على أن منشئهما قادر له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء؛ إذ القدرة المستفادة والمكتسبة لا تبلغ ذلك.
وكذلك في إحياء الأرض بعد موتها وإخراج النبات منها دلالة ذلك كله: من دلالة الوحدانية، ودلالة العلم الذاتي والقدرة الذاتية والحكمة والتدبير؛ لأنه لما أحياها بعد موتها، وأماتها بعد إحيائه إياها دل أنه فِعْلُ واحدٍ لا عدد؛ لأنه لو كان فعل عدد لكان إذا أحيا هذا منع الآخر عن الإماتة، وهكذا إذا مات هذا منع الآخر على أن يكون من فعل ذي عدد من ملوك الأرض؛ فإذ لم يمنع ذلك دل أنه فعل واحد، ودل جريان ذلك كله في كل عام على مجرى واحد وسنن واحد وعلى مقدار واحد من النبات وغيره على أنه إنما كان بعلم ذاتي وحكمة ذاتية، ودلت القدرة على إحيائها بعد موتها وإماتتها بعد حياتها أن له قدرة ذاتية لا يعجزه شيء من البعث وغيره.
ثم جعل - جل وعلا - في الماء معنى، يوافق ذلك المعنى جميع النبات الخارج من الأرض على اختلاف أجناسها وجواهرها؛ حتى يكون حياة كل شيء من ذلك به: أن ذلك كان كذلك بلطف منه لا يبلغه فهم البشر ولا علمهم، ثم ذلك النبات مع لينه وضعفه ورقته يشق تلك الأرض مع شدتها وصلابتها ويخرج منها ما لا يتوهم خروج أشد الأشياء منها بفعل أحد سواه، دلَّ ذلك على قدرته ولطفه، واللَّه أعلم.
ثم قوله: (تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً) أي: ميتة.
(فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ) أي: تحركت نباتُها وتزينت وصارت حية.
وقوله: (وَرَبَتْ) أي: تربو ويزيد ما عليها من النبات.
قَالَ الْقُتَبِيُّ: اهتزت بالنبات، ربت: علت وانتفخت.
وقال أَبُو عَوْسَجَةَ: اهتزت أي: فُرجت، وربت: من الزيادة.
وقوله: (إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى).
هو ما ذكرنا: أن الذي ملك وقدر على إحيائها لقادر على إحياء الموتى بعد موتهم.
(إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، أي: لا يعجزه شيء.
* * *
قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (٤٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ


الصفحة التالية
Icon