لتعرف عذرهم، وتبقى على حسن ظنك بهم، ولتخرج من محض التقليد، إلى مطمئن من الحق.
فإن الأذكياء والحكماء لا يذهبون إلى رأي نكرٍ إلا فرارا مما هو أشد نكارة، فمن لم يعرف ذلك إما أساء بهم الظن، وسدّ على نفسه الانتفاع بهم، أو قلّدهم في أمر ظاهر الفساد فعمي وتصامم عن الاستماع لكل دليل واضح. فإن إساءة الظن إلى دلائلك أهون عليه من إساءة الظن بأولئك الأكابر. وإن نقلت من بعض الأكابر ما يوافق الحق اشتبه عليه الأمر، وربما اتبع ما عليه الأكثرون.
فلذلك احتجنا إلى ذكر بعض الأسباب المانعة عن الإيقان بالنظام مع وضوح دلائله، فنقول وبالله التوفيق:
الأول:
وهو أقوى الأسباب: تبرئة كلام الله عن كل عيب وشين. ولا شك أنه ظاهر النظام والترتيب في كثير من المواضع، ولكنهم لو ادعوا أن كله منظم، _والنظم مرعي فيه _ لاضطروا في مواضع إلى القول بعدمه وذلك لغموضه ودقته، فتركوا هذا المسلك، ولم يحولوه إلى قصور أفهامهم، فإن منها ما وجدوه خلاف أصول النظم، وتيقنوا أنه لا يمكن فيه تصور نظم ما. كما ترى في آية: ﴿حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ _ البقرة: ٢٣٨_ فإن هذه الآية واقعة بين ذكر متصل لأمور النساء، ثم بعدها يرجع إلى الذكر الأول، ولولا هذه الآية لكان البيان على غاية الاتصال.
ومن بيّن مناسبة هذه الآية، لم يأت بما يتقبله من رزق شيئا من الإنصاف ويستمع القول فيتبع أحسنه.
ومن الذين يؤمنون بوجود النظام من نسب ذلك إلى عجز فهمه. وذلك هو المسلك الأحوط وقد كشف لنا غطاؤه بعد سنين، فالحمد لله رب العالمين ﴿وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ﴾ الأعراف: ٤٣.


الصفحة التالية
Icon