ذلك لأن القرآن نزل في نيف وعشرين سنة في أحكام مختلفة، وما كان كذلك لا يتَأتّى ربط بعضه ببعض ولا شك بأن الأمر المتحد المرتبط أوله بآخر لا يحتاج أن نبحث له عن المناسبة لأنها ظاهرة الفكرة مرتبط أولها بآخرها، فهذا الشرط هو تحصيل حاصل. أما في ما وراء الأمر المتحد المرتبط أوله بآخره، فنرى أن العز بن عبد السلام لا يقول بالمناسبة، وذلك لاختلاف أسباب النزول، ولا شك بأن هذا الرأي مبني على أن ترتيب الآيات كما هي في المصحف، إنما كان على ترتيب النزول، وهو أمر ظاهر البطلان، بعد ما قدمنا من الأدلة على أن ترتيب الآيات ليس وفق ترتيب النزول، وأنه توقيفي بأمر من الرسول ﷺ _ وهكذا نرى أن هذه الشبهة ساقطة، ولا تنهض أمام الأدلة المتوافرة التي سبقت.
ونستخلص من هذا أن العز بن عبد السلام متوسط في رأيه، فهو يقول بالمناسبة الظاهرة، دون الخفية، وذلك ليهرب أيضا من التكلف الذي رآه عند بعض من خاضوا هذا البحر، ولم يحسنوا فيه السباحة فأوشكوا على الغرق. فهو يرى حسن المناسبة ولكنه يشفق على من يسعى إليها.
مع الجمهور:
لا شك أن رأي الجمهور بالقول بالمناسبة يعتمد على أدلة قوية كما قدمنا، غير أن الطريقة التي سلكها أكثرهم في التعرض إلى المناسبة واستكشافها لم تكن تساعدهم دائما على معرفة المناسبة القوية، فيلجئون إلى مناسبات ضعيفة قد تضطرهم إلى شيء من التكلف مما حمل أصحاب الاتجاه الأول على إنكار المناسبة والتشنيع على القائلين بها، وأصحاب الاتجاه الثاني على القول بها في حال دون حال ويبدو أن الطريقة التي كانوا يلجئون إليها في غالب الأحيان، وهي طريقة التحليل حيث لا يتجاوزون الآيتين المتجاورتين، وبالتالي ينحصر البحث في معنى الآيتين ولا يجاوزهما إلى معانٍ أخرى تفهم من مجموع الآيات في السورة الواحدة، ولو أنهم بعد أن سلكوا هذا الطريق التحليلي، عادوا فنظروا إليه نظرة محلية تركيبية، لأمكنهم أن يربطوا بين الآيات كلها ربطا