ولذلك لم يكن من الهدي القرآني استخدام الأسلوب الجدلي الذي جد فيما بعد عند المتكلمين والفلاسفة؛ لأن بعض هذا الأسلوب لا يصل إلى القلوب ولا يوافق العقل والفطرة، ولكن الهدي القرآني في عرضه للآيات الكونية بهذا الأسلوب الواضح البسيط هو أقوى الأدلة المقنعة للقلب والعقل جميعاً.
ثالثا: التدرج في عرضها والبدء بالأهم، فنجد من الهدي القرآني عند عرضه للآيات الكونية البدء بالأهم، ويمهد لذلك بالقضايا المسلمة ثم ينتقل إلى الأصعب حتى يصل إلى المراد، قال تعالى: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٤) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (٨٥) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (٨٦) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (٨٧) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٨٨) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (٨٩) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ﴾ (١).
فنلاحظ من خلال الآيات التدرج معهم بالقضايا المسلمة مما أقروا به، ثم الترقي من الأمر السهل إلى الأمر الصعب.
قال ابن سعدي -رحمه الله-: " أي قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره، محتجا عليهم بما أثبتوه وأقروا به من توحيد الربوبية وانفراد الله بها، على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة على ما أنكروه من إعادة الموتى الذي هو أسهل من ذلك: ﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا﴾،... ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك، فقال: ﴿قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾،... ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله، فقال: ﴿قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ " (٢).
(٢) تفسير ابن سعدي: ٣/ ١١٤٢ - ١١٤٣.