كلّه، قال: فخرجوا من عند داود عليه السّلام، فمرّوا على سليمان فقال: بم قضى بينكم الملك؟ فأخبروه، فقال: نعم ما قضى به، وغير هذا كان أوفق بالفريقين جميعا، فرجع أصحاب الغنم إلى داود عليه السّلام (١)، فأخبروه بما قال سليمان، فأرسل داود إلى سليمان، فقال: كيف رأيت قضائي بين هؤلاء؟ قال: نعم ما قضيت، قال: عزمت عليك بحقّ النبوّة، وبحقّ الملك، وبحقّ الوالد على ولده إلاّ ما أخبرتني، فقال سليمان: غير هذا كان أوفق بالفريقين جميعا، قال: ما هو؟ قال: يأخذ أهل الكرم الغنم بما أفسدت كرمهم، فينتفعون بألبانها وسمنها وأصوافها ونسلها، ويعمل أهل الغنم لأهل الكرم في كرمهم حتى يعود كهيئته يوم أفسدت، فقال داود عليه السّلام: نعم ما قضيت، فقضى داود بينهم بذلك، فقوّموا بعد ذلك الكرم، وقوّموا ما أصاب أهل الكرم من الغنم (٢)، فوجدوه مثل ثمن الكرم، فقضى به داود عليه السّلام، وحكم سليمان عليه السّلام وهو ابن أحدى عشرة (٣) سنة.
قول سليمان: غير هذا كان أوفق، دليل على جواز مشاركة النبيّ والإمام في الاجتهاد؛ لقوله تعالى: ﴿وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ﴾ [آل عمران: ١٥٩]. وقول داود: عزمت عليك، دليل على وجوب طلب الأحسن ما أمكن، ولهذا رجع أبو حنيفة من قول إلى قول. وفي قضائه بقضاء سليمان دليل على أنّه كان على سبيل الفتوى، ولم يبرم قضاءه، أو كان من شريعته فسخ الاجتهاد (٤)، أو أوحى الله أنّ الحقّ ما قاله سليمان، فصار فسخ الاجتهاد بالنصّ.
والحكم في شريعتنا على ما روى أبو هريرة، عنه عليه السّلام: «العجماء جبار، والمعدن جبار» (٥)، وفي بعض الروايات: «جرح العجماء جبار» (٦)، فيستعمل الخبرين العامّ على عمومه، والخاصّ على خصوصه.
﴿وَكُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً:﴾ دليل على حسن حكم داود، وإن كان حكم سليمان أحسن منه، وإنّ أقاويل المجتهدين كلّها دين لله تعالى.
﴿وَسَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ (٧)﴾ وَالطَّيْرَ: لمحاومة داود كان خلاف العددة (٨)
_________
(١) (فأخبروه، فقال: نعم... بينكم الملك) ساقطة من ع.
(٢) ساقطة من أ.
(٣) الأصول المخطوطة: أحد عشر.
(٤) أ: اجتهاد.
(٥) أخرجه البخاري في الصحيح (١٤٢٨ و ٦٥٢٥)، وابن خزيمة ٤/ ٤٦، والدارقطني في السنن ٣/ ١٥٤.
(٦) أخرجه مالك في الموطأ ٢/ ٨٦٩، والنسائي في الكبرى (٢٢٧٦)، والبيهقي في الكبرى ٤/ ١٥٥، والدارمي ١/ ٤٨٣.
(٧) غير موجودة في الأصول المخطوطة.
(٨) ع: عدد.


الصفحة التالية
Icon