وإلى الموعظة ترجع صناعة الخطابة؛ لأن الخطابة تتألف من مقدّمات ظنّية لأنها مراعى فيها ما يغلب عند أهل العقول المعتادة، وكفى بالمقبولات العادية موعظة، ومثالها من القرآن قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلاً﴾ [النساء: ٢٢]، فقوله: ﴿وَمَقْتًا﴾ أشار إلى أنّهم كانوا إذا فعلوه في الجاهلية يُسمونه نكاح المَقت، فأجري عليه هذا الوصف لأنه مُقنع بأنه فاحشة، فهو استدلال خطابي.
وأما الجدل فما يورد في المناظرات والحجاج من الأدلّة المسلّمة بين المتحاجَيْن أو من الأدلّة المشهورة، فأطلق اسم الجدل على الاستدلال الذي يروج في خصوص المجادلة ولا يلتحق بمرتبة الحكمة، وقد يكون مما يُقبل مثله في الموعظة لو ألقي في غير حال المجادلة، وسمّاه حكماء الإسلام: جدلاً تقريباً للمعنى الذي يطلق عليه في اللغة اليونانية».
وقبل أن أختم هذا المقال أحبُّ أن أبين نظر الطاهر بن عاشور في مقام الإعجاز العلمي بأنواعه، قال: «وهذه الجهة من الإعجاز إنما تثبت للقرآن بمجموعه؛ أي: مجموع هذا الكتاب، إذ ليست كل آية من آياته ولا كل سورة من سوره بمشتملة على هذا النوع من الإعجاز، ولذلك فهو إعجاز حاصل من القرآن وغير حاصل به التحدي إلا إشارة، نحو قوله: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]» (١).
وهذا يفيد في أن بيان الإعجاز في هذه القضية ـ عنده ـ إنما هو بالأمر الكلي، وليس بالتفاصيل، فالآية الواحدة المبينة للإعجاز العلمي لا يلزم أن تقوم مقام الحجة في الإعجاز، وإنما يكون مقام الحجة بمجموعها الذي نص عليه القرآن أو أشار إليه، وهذه مسألة مهمة تحتاج إلى بيان وإيضاح.
_________
(١) التحرير والتنوير (١: ١٢٩).


الصفحة التالية
Icon