والذي يدل على ذلك أمورٌ، منها:
الأول: أنَّ الله سبحانه وتعالى قد تحدَّاهم بأن يأتوا بسورة، والذي ينتظم في السورة ولا ينخرم هو التحدي بالنظم والبيان دون سائر الأنواع المُقحمة في الإعجاز القرآني.
فأنت لا تجد إعجازاً (غيبيّاً) في كل سورة، ولا تجد إعجازاً (علميّاً) في كل سورة، ولا تجد إعجازاً (تشريعيّاً) في كل سورة، لكن لا يمكن أن تخلو سورة من الإعجاز الكائن في النظم والبيان العربي.
الثاني: أن سياق الآيات في غير ما موطن يشير إلى أنَّ المراد النظم والبيان العربي دون ما سواه، والذي يدلُّ على ذلك أنَّ العرب فهموا ذلك، فلما أرادوا وصف ما جاء به النبي صلّى الله عليه وسلّم = راحوا يذكرون أصناف أصحاب القول والبيان عندهم، فزعموا أنه قول شاعر، وزعموا أنه قول كاهن، وزعموا أنه قول ساحر، حتى إذا أعياهم ذلك، وصارت حجتهم ضعيفة زعموا أنه قول مجنون، وهذا يدلُّ على أنه قد أسقِط في أيديهم فصاروا يتشبَّثون بأي شيءٍ، ولو كان ضعيفاً كما هي عادة أصحاب الضلال والخطأ، حين لا يمكنهم أن تقوم لهم حجة.
وهؤلاء الذين نَسَبوا النبي صلّى الله عليه وسلّم إليهم إنما يجمعهم القول والبيان، فالشاعر صاحب بيان، والساحر والكاهن كانوا يسجعون في أقوالهم، ويتخيَّرون الألفاظ المناسبة لكل مقام، ومن قرأ في تراث العرب أخبار سطيح وغيره ظهر له عنايتهم باختيار ألفاظهم، وحرصهم على نظمها وبيانها، والمجنون يهذي بما لا يدري.
ومن تأمَّل سياق قوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ *أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ *قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ *أَمْ تَامُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ *أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لاَ يُؤْمِنُونَ *فَلْيَاتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ﴾ [الطور: ٢٩ - ٣٤]،