ولذا كان يعتمدُ ما جاءَ عنهم كاعتمادِه على الشَّاهدِ العربِيِّ، فهو يسوقُ أقوالَهم في بيانِ المفرداتِ سياقَ من يُبيِّنُ اللُّغةَ بشواهدِها من كلامِ العربِ، فيجعلُ تفسيرَهم حجَّةً في معنى اللَّفظِ، وهذا الأسلوبُ ظاهرٌ من استقراءِ كتابه، وطريقتِه في عرضِ أقوالِهم، وإنْ كانَ قد اعترضَ على بعضِها من حيثُ اللُّغةِ، وهو قليلٌ، فهو لا يخرجُ عن الإطارِ الذي انتهجَه.
كما أنه قد يرجِّحُ أحدَ أقوالِ السَّلفِ، ويختارُ ما يراهُ راجِحاً من بينِ أقوالِ طبقاتِهم، دون اعتبارٍ لتقدُّمِ طبقةٍ عن طبقةٍ (١). ولا يلزمُ من ترجيحِه قولاً إبطالُ ما سواه، وهو قد ينبِّه على ذلك نصًّا في بعضِ المواطنِ.
ومنْ الأمثلةِ التي اعتمدَ فيها على بيانِ السَّلفِ، ما ذكره في تفسيرِه لقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: ١٧٠].
قال: «وقوله تعالى: ﴿أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا﴾ [البقرة: ١٧٠]، يعني: وجدنا، كما قال الشاعر (٢):
فَألْفَيتُهُ غَيرَ مُسْتَعْتِبٍ | وَلا ذَاكِرِ اللهَ إلاَّ قَلِيلاً |
وكما حدَّثنا بشر بن معاذ (٣)، قال: حدَّثنا يزيد (٤)، قال: حدَّثنا
_________
(١) من الملاحظِ أن أغلب منهج ابن جرير في التَّرجيح بين أقوالِ السلفِ لا يعتمدُ على تقديم قول الصَّحابيِّ على من دونَه إذا كان الأمرُ يعودُ إلى الاجتهادِ، وهذا منهجٌ جديرٌ بالدِّراسةِ والتَّحريرِ.
(٢) البيت من شواهد النَّحو المشهورةِ، وهو لأبي الأسود الدؤلي في ديوانه، تحقيق: محمد حسن آل ياسين (ص: ٥٤).
(٣) بشر بن معاذ العقدي، أبو سهل البصري الضرير، روى عن: أبي داود الطيالسي وأبي معاوية الضرير وغيرهما، وعنه: الترمذي ومحمد بن خزيمة وغيرهما، وهو صدوق، توفي سنة (٢٤٥)، وقيل غير ذلك. ينظر: تهذيب الكمال (١: ٣٥٧)، وتقريب التهذيب (ص: ١٧١).
(٤) يزيد بن زُرَيع، أبو معاوية البصري، روى عن أيوب السختياني وسفيان الثوري =