ومن غيوبه الباقية والمستمرة ما قال في اليهود: ﴿قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الْدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [البقرة: ٩٤، ٩٥]، وقال: ﴿قُلْ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ *وَلاَ يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [الجمعة: ٦، ٧]، ولم نسمع أن يهودياً تمنى الموت.
ومن وجوه صدقه العقلية تلك العتابات للرسول صلّى الله عليه وسلّم؛ كما في قوله: ﴿عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التوبة: ٤٣]، ﴿لَوْلاَ كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [الأنفال: ٦٨]، ولو كان من عنده لأخفى مثل هذه العتابات، وقد نبهت إلى ذلك السيدة عائشة، فقد روى البخاري بسنده عَنْ أَنَسٍ قَالَ: جَاءَ زَيْدُ بْنُ حَارِثَةَ يَشْكُو فَجَعَلَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: «اتَّقِ الله، وَأَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ». قَالَتْ عَائِشَةُ: لَوْ كَانَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم كَاتِماً شَيْئاً لَكَتَمَ هَذِهِ. قَالَ: فَكَانَتْ زَيْنَبُ تَفْخَرُ عَلَى أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم تَقُولُ: زَوَّجَكُنَّ أَهَالِيكُنَّ، وَزَوَّجَنِي اللهُ تَعَالَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَوَاتٍ. وَعَنْ ثَابِتٍ: «﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ نَزَلَتْ فِى شَانِ زَيْنَبَ وَزَيْدِ بْنِ حَارِثَة» (١).
ومن الأدلة العقلية على صدقه أننا نجد ذكر غيره من الأنبياء أكثر من ذكره نفسِه صلّى الله عليه وسلّم، ولو كان من عنده فكيف يغفل عن الإكثار من ذكر نفسه صلّى الله عليه وسلّم، فإننا نجد ـ مثلاً ـ ذكر اسم موسى عليه السلام أكثر من ذكر اسم محمد صلّى الله عليه وسلّم، وهذا من الدلائل العقلية الدالة على صدقه، وعلى أن هذا القرآن من لدن حكيم خبير.
_________
(١) صحيح البخاري، كتاب التوحيد، ورقم الحديث (٧٤٢٠).