فكان الله ينْزله على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعضه في إثر بعض، قال عزّ وجل: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ [الفرقان: ٣٢]» (١).
وهذا الخبر الغيبي الذي لا يُدرك إلا بالخبر قد صحَّ عن ابن عباس رضي الله عنهما (ت٦٨هـ)، وليس له مخالفٌ من الصحابة، ولا يُحتمل أن يكون من مرويات بني إسرائيل؛ لأنه خبر إسلامي. ولا يقع فيه شبهة أن يكون من مرويات بني إسرائيل؛ لذا فإنه يُقبلُ ويُحتجُّ به.
وهذا النُّزول الجملي لا يتعارض مع النُّزول الابتدائي على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، ولا مانع من أن يتفق النُّزولان في أن يكونا في ليلة القدر، فتكون الآية محتملة للأمرين معاً، ويكون ابن عباس رضي الله عنهما (ت٦٨هـ) أراد التنبيه على هذا النوع من النُّزول الذي لا يدرك إلا بالخبر، بخلاف النوع الثاني الذي يدلُّ عليه ظاهر التَّنْزيل، والله أعلم.
وهذا النُّزول الجملي لا تتعلق به أحكام سوى بيان شرف هذه الأمة وفضلها؛ إذ نزوله بهذه الصفة دون غيره من الكتب إيذان بتميُّزها عن غيرها، والله أعلم.
ولما كان هذا النُّزول الجملي من المغيبات، فإنه يخرج عن السؤالات التكييفية، فالبحث في كيفية هذا النازل، وفي أحواله من ترتيبه وكيفية تدوينه، أو القول بنُزول آيات فيه لم يقع مضمونها؛ كل هذا من اقتحام كيفيات الغيبيات، وهو من المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله، ولو رُدَّ مثل هذا بهذه الحجة لوقع الردُّ لبعض الغيبيات بمثلها، وذلك مما لا مجال للعقل فيه، فيؤمن به، ويُسلَّم له، واتباع ابن عباس رضي الله عنهما (ت٦٨هـ) أولى من اتباع بعض المتأخرين ممن استشكل هذا الخبر.
أما جبريل عليه السلام فكان يتلقاه مباشرة عن ربِّ العالمين بلا واسطة، لا
_________
(١) رواه الحاكم في مستدركه (٢: ٢٢٢)؛ وأخرجه أيضاً البيهقي في السنن الكبرى (٤: ٣٠٦).