لكن لا يعني هذا أنَّ الرسول صلّى الله عليه وسلّم فسَّر كلَّ لفظةٍ في القرآنِ؛ لأنَّ في القرآن ما هو بيِّنُ المعنى، فلا يحتاج إلى بيان، وفيه ما هو بلغة القومِ، فلم يحتاجوا بمعرفتهم لغتهم إلى أن يسألوا عنه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، لكن إذا استشكلوا شيئًا من القرآن سألوا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ظاهر في سؤالات الصحابة للرسول صلّى الله عليه وسلّم عن معاني بعض الآيات، ومن ذلك:
حديثُ ابن مسعودٍ (ت: ٣٥)، قال: «لما نزلت ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ﴾ [الأنعام: ٨٢] قلنا: يا رسولَ الله، وأيُّنا لم يظلمْ نفسَه؟
قال: ليسَ كما تقولونَ. لم يلبِسُوا إيمانَهم بظلمٍ: بشركٍ، ألم تسمعوا إلى قولِ لقمانَ لابِنه: ﴿يَابُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ﴾ [لقمان: ١٣]» (١).
إنَّ هذا الحديث يَدُلُّ على أن الصَّحابةَ رضي الله عنه كانوا يجتهدونَ في فَهمِ القرآنِ الذي نزلَ بلغتِهم على ما يفهمونَه منها، فإنْ أشكلَ عليهم منه شيءٌ سألوا رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم، وهذا ظاهرٌ من هذا الحديثِ؛ لأنَّهم جعلوا معنى الظُّلمِ عامًا على ما يعرفونه من لغتِهم، فأرشدَهم النَّبيُ صلّى الله عليه وسلّم إلى المعنى المرادِ به في الآيةِ، ونبَّهَهم إلى أن المعنى اللُّغويَّ الذي فسَّروا به الآيةَ غيرُ مرادٍ، ولم ينهَهم صلّى الله عليه وسلّم عنْ أنْ يفسِّروا القرآنَ بلغتِهم، ولو كان هذا المَسْلَكُ خَطأً لنبَّهَهُم عليه.
وهذا الحديث يشير إلى أنَّ المدارسة الواردة في الآثار السابقة كانت تتمُّ بين الصحابة، وأنهم كانوا يرجعون للرسول صلّى الله عليه وسلّم فيما يحتاجون إليه.
ومما يدلُّ على أنهم لم يتلقَّوا بيان جميع الألفاظ ما وقع بينَ
_________
(١) أخرجه البخاري، انظر: فتح الباري، ط: الريان (٦: ٤٤٨). وقد أخرجه البخاري في مواضع أُخر من صحيحه.