وأما قولهم: "إنه قد يكون أن يسبق الشاعر في المعنى إلى ضرب من اللفظ والنظم، يعلم أنه لا يجيء في ذلك المعنى أبدًا إلى ما هو منحط عنه" فإنه ينبغي أن يقال لهم: قد سلمنا أن الأمر كما قلتم وعلمتم، أفعلمتم شاعرًا او غير اشعر عمد إلى ما لا يحصى كثرة من المعاني، فتأتى له في جيمعها لفظ أو نظم أعيا الناس أن يستطيعوا مثله، أو يجدوه لمن تقدمهم؟ أم ذلك شيء يتفق للشاعر، من كل مئة بيت يقولها، في بيت؟ ولعل [غير] الشاعر على قياس ذلك. وإذا كان لابد من الاعتراف بالثاني من الأمرين، وهو أن لا يكون إلا نادرًا وفي القليل، فقد ثبت إعجاز القرآن بنفس ما راموا به دفعه، من حيث كان النظم الذي لا يقدر على مثله قد جاء منه فيما لا يصحى كثرة من المعاني.
٣٥ - وهكذا القول في الفصول التي ذكروا أنه لم يوجد أمثالها في معانيها، لأنها لا تستمر ولا تكثر، ولكنك تجدها كالفصوص الثمينة والوسائط النفيسة وأفراد الجواهر، تعد كثيرًا حتى ترى واحدًا. فهذا وشبهة من القول في دفعهم مع تسليم ما ظنوه من أن التحدي كان إلى أن يعبر عن معاني القرآن أنفسها ممكن غير متعذر، إلا أن الأولى أن يلزم الجدد الظاهر، وأن لا يجابوا إلى ما قالوه من أن التحدي كان إلى أن يؤدي في أنفس معانيه بنظم ولفظ يشابهه ويساويه، ويجزم لهم القول بأنهم تحذوا إلى أن يجيئوا في أي معنى أرادوا مطلقًا غير مقيد، وموسعًا عليهم غير مضيق، بما يشبه نظم القرآن أو يقرب من ذلك.
٣٦ - ومما يحيل أن يكون التحدي قد كان إلى ما ذكروه ومع الشرط الذي توهموه، أن العرب قد كانت تعرف "المعارضة" ما هي وما شرطها، فلو كان النبي ﷺ قد عدل بهم في تحديه لهم إلى ما لا يطالب بمثله،