معاذ الله (١)، وقولُهُ: ﴿مَا هَذَا بَشَرًا﴾ أي: قُلْنَ: مَا هَذَا بَبشَرٍ; لِأَنَّهُنَّ لَمْ يَرَيْنَ فِي حُسْن صُورَته مِنَ الْبَشَر أَحَدًا، فَقُلْنَ: لَوْ كَانَ مِنَ الْبَشَر لَكَانَ كَبَعْضِ من رَأَيْنَا مِنْ صُورَة الْبَشَر، وَلَكِنَّهُ مِنَ الْمَلَائِكَة لَا مِنَ الْبَشَر.
وقوله تعالى: ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ أي: قَالَتْ امْرَأَة الْعَزِيز لِلنِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ، فَهَذَا الَّذِي أَصَابَكُنَّ فِي رُؤْيَتِكُنَّ إِيَّاهُ فِي نَظْرَةٍ مِنْكُنَّ نَظَرْتُنَّ إِلَيْهِ مَا أَصَابَكُنَّ مِنْ ذَهَاب الْعَقْل وَغُرُوب الْفَهْم وَلَهًا إِلَيْهِ حَتَّى قطعن (٢) أَيْدِيَكُنَّ، هُوَ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِي حُبِّي إِيَّاهُ وَشَغَف فُؤَادِي بِهِ، فَقُلْتُنَّ: قَدْ شَغَفَ امْرَأَةَ الْعَزِيز فَتَاهَا حُبًّا ﴿إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَال مُبِين﴾. ثُمَّ أَقَرَّتْ لَهُنَّ بِأَنَّهَا قَدْ رَاوَدَتْهُ عَنْ نَفْسه، وَأَنَّ الَّذِي تَحَدَّثْنَ بِهِ عَنْهَا فِي أَمْره حَقّ، فَقَالَتْ ﴿وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ﴾ أي: امتنع مِمَّا رَاوَدْتهُ عليه، قال السدّي: استعصم بعد ما أحل السراويل، لا أدري ما بدا له، وقال قتادة: فاستعصم، وقال ابن عباس: فامتنع وإن لم يُطَاوِعْنِي إلى مَا أَدْعُوهُ إِلَيْهِ مِنْ حَاجَتِي إِلَيْهِ لَيُسْجَنَنَّ في السجن، وَلَيَكُونَا مِنْ أَهْل الصَّغَار وَالذِّلَّة بِالْحَبْسِ وَالسَّجْن، وَلَأُهِينَنَّهُ (٣).
وقوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ هَذَا الْخَبَر مِنَ اللَّه تعالى يَدُلّ عَلَى أَنَّ امْرَأَة الْعَزِيز قَدْ عَاوَدَتْ يُوسُف فِي الْمُرَاوَدَة عَنْ نَفْسه، وَتَوَعَّدَتْهُ بِالسَّجْنِ وَالْحَبْس إِنْ لَمْ يَفْعَل مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ، فَاخْتَارَ -صلى الله عليه- السَّجْن عَلَى مَا دَعَتْهُ إِلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّهَا لَوْ لَمْ تَكُنْ عَاوَدَتْهُ وَتَوَعَّدَتْهُ بِذَلِكَ، كَانَ مُحَالًا أَنْ يَقُول: ﴿رَبِّ السِّجْن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾، وَهُوَ لَا يُدْعَى إِلَى شَيْء وَلَا يُخَوَّف بِحَبْسٍ. وَالسِّجْن: المحَبْس نَفْسه، وَهُوَ بَيْت الْحَبْس، وتأويل الكلام: قال يوسف:
_________
(١) ابن جرير، مرجع سابق، ١٦/ ٨٣. ابن أبي حاتم، مرجع سابق، ٧/ ٢١٣٦.
(٢) كذا في الأصل"قطعن" والظاهر والله أعلم "قطعتْن" كما هو ظاهر السياق.
(٣) ابن جرير، مرجع سابق، ١٦/ ٨٧، ٨٦. فخر الدين الرازي، مرجع سابق، ١٨/ ١٠٤. الشوكاني، مرجع سابق، ٣/ ٣٠. فائدة: لا يجد المؤمن معتصماً يعتصم به عند تعرضه للفتن على اختلاف أنواعها خيرا له من حصن رب العالمين فهو وحده معتصمه الوحيد. نصر والهلالي، مرجع سابق، ١/ ٤٠٤.