ومن قصرها على الأوّل فقد قصر، وتقريره كما في التفسير الكبير أنّ المفلح من اتصف بهذه الصفات فغير. ليس بمفلح فيخلد في النار أو يحرم النعيم، وترتب الحكم على الوصف، وما في معناه يشعر بعليته للحكم فعلة الفلاح الإيمان وفعل الصلاة والزكاة فمن أخل بشيء منها لم يفلح، والقبلة بالكسر في الأصل اسم للحالة التي عليها المقابل كالجلسة والقعدة، وفي التعارف صار اسماً للمكان المقابل المتوجه إليه للصلاة وإذا أطلق يراد به الكعبة كقوله تعالى ﴿فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا﴾ [البقرة: ١٤٤] وأهل القبلة كناية عن المسلمين، وهو المراد. قوله: (وردّ بأنّ المراد إلخ) الرادّ هو الإمام في تفسيره يعني أنّ المراد بالمفلحين هنا الكاملون في الفلاح والنجاة، فمن عداهم ليس بكاملا لا غير مفلح، وكذا ما ذكر من العلية علة لكماله لا لأصله، فلا يرد عليه شيء وقيل نفي السبب الواحد لا يقتضي نفي المسبب لجواز أن يكون له سبب آخر كعفو الله هنا، وما قيل من أنّ الأحسن في الجواب أنّ المراد بالمتقين المجتنبون للشرك ليدخل العاصي فيهم، فإن قلت كيف جاز أن يسمى العاصي مفلحاً قلت: كما جاز أن يكون مصطفى في قوله تعالى
﴿ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا﴾ [فاطر: ٣٢] إ أخ اهـ فلا يخفى ما فيه، فإنه ليس إشارة إلى المتقين فقط، ولذا تركه الشريف وغيره، وكون الصفة مادحة لا يجدي ولذا قيل إنه جواب جدليّ، وفي الكشف لا استدلال للمعتزلة فيه على خلود الفساق، كما عرّض به المصنف لأنّ الفلاح عدم الدخول، أو لأنّ انتفاء كمال الفلاح لا يقتضي انتفاءه مطلقاً على الوجهين في اللام اهـ. قوله: (لا عدم الفلاح لهم رأساً) أي أصلاً لاستلزام الرأس لوجود الحيوان فإذا أنتفت انتفى وهو منصوب بنزع الخافض، وأصله لا عدمه برأسه أي بجملته. قوله: (خاصة عباده وخالصة أوليائه إلخ) الخاصة خلاف العامة والتاء للتأكيد، وعن الكسائيّ الخاص والخاصة واحد كذا في المصباح فخاصة العباد أكرمهم عند الله والخالص في الأصل كالصافي.
وقال الراغب: الخالص في الأصل ما زال عنه شوبه بعد أن كان فيه، والصافي قد يقال
لما لا شوب فيه، ويقال: هذا خالص وخالصة نحو واهبة وواقية اهـ. فالتاء فيه للمبالغة، وخالصة أوليائه من اشتد إخلاصه لله من صالح عباده المتقين وفي نسخة خلاصة وهو قريب منه، والمراد بصفاتهم ما تضمنته الآية من قوله المتقين إلى قوله أولئك وأهله أي جعله أهلاَ أي مستحقاً من قولهم هو أهل لكذا أي خليق وجدير، والهدى في الدنيا والفلاح في العقبى لأنهم السعداء في الدارين، وهذا معنى قوله ﴿أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى﴾ إلخ. قوله: (عقبهم بأضدادهم إلخ) جواب لما يقال عقبه تعقيباً إذا جاء بعده من العقب وهو مؤخر القدم، والأضداد جمع ضد والضدان المتنافيان اللذان تحت جنس واحد كالبياض والسواد، فإن لم يندرجا تحت جنس كالحلاوة والحركة لم يكونا متضادّين قال الراغب: الضد أحد المتقابلين المختلفين اللذين كل واحد منهما قبالة الآخر ولا يجتمعان في شيء واحد في وقت واحد، وذلك أربعة أشياء الضدّان كالبياض والسواد والمتضايفان كالضعف والنصف، والوجود والعدم كالبصر والعمى، والإيجاب والسلب، وكثير من المتكلمين، وأهل اللغة يجعلونها كلها متضادّة إلى آخر ما فصله، والعتاة جمع عات من عتا إذا استكبر وجاوز الحد والمردة كفسقة جمع مارد، وقد فسروه بالعاتي والظاهر أن يفسر بما هو شديد العتوّ حتى يكون من الترقي. وقوله الذين لا ينفعهم إلخ بيان لما به التضاد لأنّ الأوّلين على هدى مؤمنين بالآيات، وهؤلاء بخلافه واجمال لحال هؤلاء توطئة لما بعده مع ما فيه من الإشارة إلى ارتباطه بم قبله حتى جاء على عقبه من غير فاصل فإنه لا بد منه، وان لم يكن مصححاً للعطف، والنذو بضمتين جمع نذير. قوله: (ولم يعطف قصتهم إلخ) في الكشاف ليس وزان ما هنا وزان نحو قوله ﴿إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ﴾ [الانفطار: ١٣] لأنّ الأولى فيما نحن فيه مسوقة لذكر الكتاب وأنه هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ، وسيقت الثانية لأنّ الكفار من صفتهم كيت وكيت فبين الجملتين تباين في الغرض والأسلوب، وهما على حد لا مجال فيه للعاطف فيه، وهذا إذا كان الذين يؤمنون جاريا على المتقين، وكذا إذا كان مبتدأ فالاستئناف مبنيّ على تقدير سؤال، فذلك إدراج له في حكم المتقين وجعله تابعا له في المعنى، وإن كان مبتدأ في اللفظ، فهو في الحقيقة كالجاري عليه، وذكر السكاكي