ليطلب مناسبة الثانية مع السابقة بل من باب ضم جمل مسوقة لغرض إلى أخرى مسوقة لآخر، والمعنى بالعطف المجموع وشرطه المناسبة بين الغرضين، فكلما كانت المناسبة بين القصتين أشد وأمكن كان العطف بينهما أشدّ وأحسن، ولا يتكلف لخصوص كل جملة تناسب خاص، وهذا أصل في العطف لم يصرّح به الإمام السكاكي، ولذلك أشكل عليه العطف في نحو ﴿وَبَشِّرِ الَّذِين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ﴾ [ابقرة: ٢٥] على الوجه المذكور وسيجيء له مزيد تقرير، وهو ردّ ضمنيّ على الطيبي في قوله إنّ كلام الكشاف هنا يحتمل وجهين.
أحدهما أن يعطف من حيث حصول مضمون الجملتين في الوجود.
وثانيهما أنّ الجهة الجامعة بين من محض الكفر ظاهرا وباطناً.
وبين من أظهر الإيمان وأبطن الكفر التوافق في الكفر، فإنه لم يحم حول المراد، وأمّا
من اعترض على الكشف وإرجاع ما هنا إليه بأنه ذهول عن التعبير عنهم بلفظ المصرّين في قوله معطوفة على قصة المصرين إيماء إلى الجامع بين القصتين المصحح للعطف، وهو تناسب التضادّ بين الإصرار والذبذبة، وكذا من قال معترضاً على المدقق لا بدّ في ضم الجمل من التناسب بينهما، فهو لظهور سقوطه غنيّ عن الرد، فإنه ناشىء من عدم التدبر، ولولا أنّ لكل ساقطة لاقطة لم أورده هنا. وقوله: (عن آخرها) معناه جميعها وجملتها وقد مرّ الكلام عليه مفصلاً، وتناسب الغرضين ظاهر لما فيهما من النعي على أهل الضلال من الكفار والمنافقين. قوله: (والناس أصله أناس إلخ) اختلف النحاة في ناس فذهب سيبويه والجمهور إلى أنّ أصله أناس، وهو جمع أو اسم جمع لإنسان حذفت فاؤه، فوزنه عال ونقصه وإتمامه جائزان إذا نكر فإذا عرف بال فالأكثر نقصه ويجوز على قلة إتمامه كما ستراه، واشتقاقه من الإنس ضد الوحثة أو من أنس بمعنى ظهر أو علم، وذهب الكسائي إلى أنه اسم تامّ، وعينه واو من نوس إذا تحرّك بدليل تصغيره على نوشى وقال سلمة بن عاصم كل من ناس وأناس مادّة مستقلة. قوله: (لقولهم إنسان الخ) استدلال لحذف الهمزة منه بثبوتها في مفرده من إنسان، وإنسيّ بكسر فسكون، وأنسيّ بفتحتين بمعناه ولا دليل فيه على القول بأنهما مادّتان مستقلتان، وإنّ ناساً اسم جمع لا مفرد له من لفظه كقوم ورهط. وقوله: (أناسي) بتخفيف الياء وتشديدها جمع إنسيّ أو إنسان، وأصله أناسين، فأبدلت نونه ياء، وأدغمت كظرابي، واقاحي وعلى هذا، فالإبدل فيه غير لازم لقول الشاعر:
وبالأناسيّ إبدال الأناسين
فحذفت الهمزة حذفها في لوقة وعوّض عنها حرف التعريف، ولذلك لا يكاد يجمع بينهما وقوله:
إن المنايا يطلعن على الأناس الآمنينا
شاذ وهو اسم جمع كرخال إذ لم يثبت فعال في أبنية الجمع مأخذو من أنس، لأنهم
وبه يردّ على ابن عصفور حيث ادّعى لزومه، والإنسان يقال للذكر والأنثى، وانسانة
عامية مولدة والشعر الذي نقله فيه وهو:
لقدكستني في الهوى ملابس الضث الغزل
إت نة فتانة بدرالدجى منهاخجل
للثعالبي كما صرّح به في عامّة كتبه، فلا وجه للاستدلال به ولا لإيراد صاحب القاموس
له، وتشككه فيه. قوله: (حذفها في لوقة) فقيل ألوقة ولوقة، وفي الصحاح اللوقة بالضم الزبدة عن الكساتي، وقد لوّق طعامه إذا أصلحه بالزبد يقال لا آكل إلا ما لوّق لي أي لين لي حتى يصير كالزبد في لينه. وقال ابن الكلبي: هو الزبد بالرطب وفيه لغتان لوقه وألوقة، ولذا ذكروه في مادّة لوق وألق وذهب بعضهم إلى أنهما لغتان وأصلان ولوق بالتشديد دليل عليه، وقيل إنه لم يثبت عند القائلين بالحذف وفي الحذف ودخول اللام والتعويض وعدمه ما مرّ في لفظ الله. وقوله: (لا يكاد يجمع بينهما) إشارة إلى ما اشتهر من أنّ العوض والمعوّض عنه لا يجتمعان ولا يرتفعان وقد اجتمعا في قول العرب الأناس، وارتفعا في مثل قولهم إذ الناس ناس والزمان زمان.
وهذا كثير في كلام العرب، فصيح فذهب بعضهم إلى أنّ مقتضى العوضية عدم الاجتماع
في الفصيح الشائع لا في النادر الشاذ، فتأمّل وقد تقدم تفصيله في الفاتحة. قوله: " ن المنايا يطلعن البيت) هو بيت من مجزوء الكامل قال ابن يعيش: قائله مجهول فالاستشهاد به على الجمح مردود وبعده:
فتذرهم شتى وقد كانوا جميعاً وافرينا
وقيل هو من قصيدة لعبيد بن الأبرص طويلة يخاطب بها أمرأ القيس، وأوّلها كما في الحصاسة البصرية:
نحن الأولى فاجمع جمو ~ عك ثم وجههم إلينا