عليه من الصدق والتصديق، فإنّ المؤمن إذا سمع ترتب العذاب على الكذب دون النفاق الذي هو أخبث الكفر وصاحبه في الدرك الأسفل تخيل في نفسه تغليظ اسم الكذب، وتصوّر سماجته فانزجر أعظم انزجار فسقط ما قيل من أنّ قبحه لا سيما عندهم تحقيق لا تخييل، لما عرفته من معنى التخييل والزجر وهذا من قبيل ما في قوله تعالى ﴿الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ﴾ [غافر: ٧] من ذكر الوصف سواء كان نعتاً أولا لمدح ذلك الوصف في نفسه، أو ذمه ترغيباً فيه أو تنفيراً، كما يكون الوصف لمدح الموصوف أو ذمه، وهذا كما صرّج به السكاكيّ والخطيب، ومن الناس من حسبه من البديع الغريب وسيأتي في كثير من النظم الكريم، والمراد بترتبه عليه أنه مسبب عنه، فهو مؤخر رتبة وما ذكره ظاهر على قراءة التخفيف وكذا في غيرها لأنّ نسبة الصادق إلى الكذب كذب، وكذا كثرته ونحوها فتدبر. قوله: (وما روي أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلخ) إشارة إلى ما روي في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة فيقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام إني كذبت ثلاث كذبات على روايات مختلفة في بعضها أنه عذها فذكر قوله في الكوكب ﴿هَذَا رَبِّي﴾ [الأنعام: ٧٨] وقوله ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [الأنبياء: ٦٣] وقوله ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ (١ ( [الصافات: ٨٩] وروى الترمذفي رحمه الله في حديث الشفاعة أنهم يأتون إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيقولون له اشفع لنا فيقول: لست لها إني كذبت ثلاث كذبات، ثم قال صلى الله عليه وسلم: ما منها كذبة إلا ما حل بها وفي رواية جادل بها عن دين الله وفي رواية أحمد رحمه الله إنها قوله ﴿إنّي سَقِيم﴾ [سورة الصافات، الآية: ٨٩] وقوله ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا﴾ [سورة الأنبياء، الآية: ٦٣] وقوله للتيك في جواب سؤاله عن امرأته سارة هي أختي حين أراد الملك غصبها وكان من طريق السياسة التعرّض لذوات الأزواج دون غيرهن بدون رضاهن، وقيل: هي قوله ثلاث مرات هذا ربي والحديث بطوله مشهور في كتب الحديث، وكذبات قال القاضي عياض في مشارق اللغة: هو بفتح الكاف والذال جمع كذبة بفتح الكاف الواحدة من الكذب اهـ. فليس جمع كذبة بكسر الكاف، وسكون الذال المعجمة بمعنى الكذب لمخالفته للرواية فيه. قوله: (فا المراد التعريض إلخ) قد عرفت أنّ الحديث صحيح وما في بعض الحواشي نقلاً عن الرازي من أنه يجب القطع بكذب رواته، وان يكذب الرواة حتى يصدق إبراهيم أولى لا أصله له عنه، فإن صح فهو خطأ، ونحن ننظر لما قيل لا لمن قال، وسيأتي ما الحامل له على مثله من الشبهة ودفعه، والمراد بالتعريض هنا معناه اللغوي وهو ما يقابل التصريح والتصريح أن يكون اللفظ نصاً في معناه لا يحتمل! معنى آخر احتمالاً معتدا به والتعريض خلافه، وهو أن يكون اللفظ محتملا لمعنيين سواء كانا حقيقيين كما في إني سقيم أولاً وسواء كان أحدهما أظهر من الآخر كما في الإبهام البديعي أولاً كما في التوجيه، فهو أعمّ من التعريض الاصطلاحي لاختصاصه بالمجاز والكناية كما ذكره السكاكيّ في آخر البيان، وكذا من الكناية والتورية والابهام والتوجيه في الاصطلاح، ويسمى في اللغة أيضا كناية وتورية وليست هذه الكناية بيانية وليست التورية بديعية، والتعريض تفعيل من عرض كذا إذا اعترض وطرأ، والكناية من كنى إذا ستر والتورية إمّا من الوراء على ما اختاره ابن الأثير كأنه ألقى البيان وراء ظهره أو من أورى القابس إذا أظهر نوراً وفي النهاية الأثيرية في الحديث المرفوع عن عمران بن حصين " إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب " المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح يقال عرفت ذلك في معراض
كلامه ومعرض كلامه بحذف الألف، وفي حديث عمر رضي الله عنه " أما في المعاريض ما يغني المسلم عن الكذب " وتسمية المعاريض كذبا من حيث مظنة السامع وهي صدق من حيث يقوله القائل وهي التورية والكناية اهـ ومن الناس من ظن أنّ التعريض هنا بمعناه المصطلح، فخبط خبط عشواء وأطال من غير طائل، وفي كلام الشريف ما يوهمه ولله در المحقق حيث فسره بأن يشار بالكلام إلى جانب ويعرض منه جانب آخر ومن لم يتفطن له قال ذكر المحقق الشريف أنّ الكلام لا يكون مستعملاَ في المعنى التعريضي أصلا بل في غيره مع إشارة إليه بقرينة السوق، وعليه ظاهر تفسير قوله تعالى ﴿فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ﴾ [البقرة: ٢٣٥] الآية فإذا أريد بقوله ﴿إِنِّي سَقِيمٌ﴾ [الصافات: ٨٩] ساسقم لا يتحقق التعريض، فإنه لا يمكن أرادة ذلك إلا بطريق الاستعمال، نإنه لا دلالة لسياق الكلام


الصفحة التالية
Icon