وسحروا مبنى للمجهول، وحسبوا معلوم، ويصح فيه بناء المجهول، والمعنى على
الأول حسبوا أنفسهم، وعلى الثاني حسبهم من رآهم من الناس، وقد قيل: إنه أبلغ قوله: (ثم
بين للناس الخ) ثم لتفاوت ما بين مرتبتي المنكر المتحدّي والمؤمن المتدبر أو للتراخي لأنه أمر
ممتدّ فعطف بثم باعتبار أوّله وإن قارنه ويعقبه بعض منه حتى جاز فيه الفاء أيضاً كما مرّ وقيل
هو للإشارة إلى جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، وإن لم يجز عن وقت الحاجة، وفيه
نظر ولام للناس صلة أو تعليلية والعموم لا يقتضي ثبوته لكل فرد فرد، وكذا قوله ليدبروا.
ونزوله إليهم بواسطة الرسول، وهم المقصودون بالذات والجن بالتبع، وأمّا تفسير الناس بالإنس والجن كما في الصحاح فمع كونه خلاف الظاهر لا يوافق ما ارتضاه المصنف رحمه الله في سورة الناس وسيأتي ما فيه فإن قلت هل نسبة التنزيل إليهم مجاز ونسبته إلى الرسول حقيقة لأنها له أوّلاً وبالذات ولامّته ثانياً وبالعرض كحركة السفينة وراكبها كما في بعض الحواشي. قلت: لا فإن الأصل الحقيقة وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ﴾ [سورة الأنبياء: ١٠] يتبادر منه ذلك لأن المراد بإنزاله إليهم إيصاله لهم ليأتمروا بأوامره، وينتهوا بنواهيه لا الوحي وخطاب جبريل عليه الصلاة والسلام، فإن فسر بهذا لزم اختصاص معناه الحقيقي بالرسول ولا حاجة تدعو إليه. قوله: (حسبما عن الخ (أي بمقدار أو على مقدار ما سنح وعرض من قولهم لا أفعله ما عن في السماء نجم أي طلع وظهر وما موصولة أو موصوفة عبارة عن الأمور والحوادث التي لها أحكام بينها الشارع وحسب منصوب على نزع الخافض أو على الظرفية لأنه بمعنى وقت الحاجة وعامله بين أو نزل أو هو حال أي بقدر ما عن لهم وسينه مفتوحة، وقد تسكن وتبيينه كما قيل يشمل القياس، ودليل العقل لارشاده إلى ما يدلّ عليه فما رجع إليه رجع في الحقيقة إلى بيان الرسول، وفي هذا تلميح إلى قوله تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤] قيل وظاهره أن القرآن كله محتاج للبيان ولذا قال الإمام: المراد بيان ما يحتاج إلى البيان من مجمله ونحوه ولا حاجة لهذا إن فسر البيان بالإعلام والتبليغ الذي لولاه لم يعرف وقد ورد هذا المعنى في القرآن كقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ [إبراهيم: ٤] الآية ولذا عمم في تفسيره يقوله فكشف الخ ليشمل جميع الأقسام ورعايته لمصالحهم تفضل منه لا بطريق الوجوب كما ذهب إليه المعتزلة، والتدبر النظر في عواقب الأمور وأدبارها، والتذكر الإيقاظ و (لمحالحظة عليها لحفظها والألباب جمع لبّ وهو العقل فانه لبّ الإنسان والبدن قشره واللباس قشر القشر، وبما ذكرناه من تفسير البيان اندفع ما أورد عليه من أنه بعد البيان لا يحتاج إلى التفكر لمعرفة ما ذكر حتى يجاب باً نه لم يبين جميع الآيات بل البعض ليتفكر في نظائره ويستنبط منها وقد يكون اللفظ بحيث لا يمكن التفكر فيه إلا بعد البيان في الجملة لكمال صعوبتة قوله: (تذكيرا (مصدر من غير فعله أو مصدر فعل مقدّر أو مصدر المجهول فيؤل إلى معنى التذكير قيل وفيه دقة لأنّ المراد تذكيرهم أنفسهم، فالتذكر تذكير بهذا الاعتبار فقصد هذا وان جاز أن يرأد تذكير الغير لأجل السجع، ويجوز أن يكون من ذكره الشيء فتذكر أي ليستحضروا ويذكروا ما هو مركوز في عقولهم مع تمكنهم من معرفتة للدلائل المنصوبة عليه، فان القرآن بيان لما لا يعرف إلا من الشرع وارشاد إلى ما يستقل به العقل ولعل التدبر للأوّل والتذكر للثاني وفيه اقتباس مع تغيير مّا وقد جوّزوه إذا لم يقصد به التلاوة (وألوا) وفي (ليدبروا) ضمير) أولى الألباب) على التنازع وأعمال الثاني أو للناس قوله: (فكشف قناع
الانغلاق) الكشف إزالة ما يستر الشيء عن المستور به والقناع بالكسر ما يستر به الرأس وهو أوسع من المقنعة والانغلاق انفعال من غلق الباب إذا سده وضرب عليه ما يمنع فتحه كالقفل وقد شاع فيما يشق الوصول إليه وما يشتد خفاؤه فيقال استغلق عليه الكلام وكلام مغلق وضده الفتح والإضافة فيه من قبيل لجين الماء، فالتقدير كشف انغلاقاً كالقناع، ولما كان المناسب للانغلاق الفتح والكشف يناسب القناع يقال كشفت قناعها وألقت جلبابها كما في الأساس جعلوا الكشف هنا ترجيحا للتشبيه وفيه ما فيه، وفي الحواشي أنه يحتمل المكنية والتخييل والترشيح تشبيها لهذا الخفاء بخفاء ما تحت القناع، وقيل: شبه الآيات تارة بمخزونات النفائس، وأخرى بمحتجبات العرائس