حوت من البلاغة أمراً عجيبا ترقص! الرؤوس له طربا، قال في الكشاف: نداء الأرض والسماء بما ينادى به الحيوان المميز على لفظ التخصيص، والإقبال عليهما بالخطاب من بين سائر المخلوقات، وهو قوله: (يا أرضى ويا سماء) ثم أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز والعقل، من قوله: (أبلعي ماءك وأقلعي) من الدلالة على الاقتدار العظيم، فإنّ السماوات والأرض! وهذه الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء غير ممتنعة عليه، كأنها عقلاء مميزون، قد عرفوا عظمته وجلالته وثوابه وعقابه وقدرته على كل مقدور، وتبينوا تحتم طاعته عليهم وانقيادهم له وهم يهابونه ويفزعون من التوقف دون الامتثال له، والنزول على مشيئته على الفور من غير ريث الخ. قيل: عنى أنه شبه الأرض والسماء بالعقلاء المميزين على الاستعارة المكنية، والنداء استعارة تخييلية وهي قرينتها، ثم رشحت بالأمر والبلغ لاختصاصه بالحيوان، لأنه إدخال الطعام في الحلق بالقوّة الجاذبة، فهو ترشيح على ترشيح، وأمّا الاقلاع فلا تجريد فيه ولا ترشيح، لاشتراكه بين الحيوان وغيره، يقال: أقلعت السماء إذا لم تمطر، وخالفه غيره فقال: إنه تجريد لاشتهاره في السماء والمطر، قال: وإنما اختير الترشيح في جانب الأرضى، والتجريد في السماء، لأنّ إذهاب الماء كان مطلوباً أوّليا وليس للسماء فيه سوى الامساك، فقيل: أقلعي والأرض هي التي تقبل الاذهاب المطلوب، وقيل: إنه وهم لأنّ تفسيرهم له بالامساك ينافيه فتأمّل. قوله: (تمثيلأ لكمال قدرته الخ) قيل مراده ما مرّ من الاستعارة المكنية والتخييلية، مع ما يصحبه من لطائف البلاغة، وهو تمثيل
فويّ، أو اصطلاحيّ باعتبار أنه يلزمه استعارة أخرى تمثيلية، لكنها ليست من صريح الطم بل تابعة له، وقيل: إنه يعني أنّ في النظم استعارة تمثيلية شبهت الهيئة المنتزعة من كمال قدرته ملى رد ما انفجر من الأرض إلى بطنها، وقطع طوفان السماء، وتكوّن ما أراده فيها كما أراد، لهيئة المنتزعة من الآمر المطاع الذي يأمر المنقاد لحكمه الخ. فعلى هذا يكون استعارة واحدة يخلاف ما في المفتاح، وعلى الوجه الأوّل لا مخالفة بين كلام الشيخين وكلام السكاكيّ، كما ارتضاه الشارح إلا في أمر يسير سيأتي بيانه، وقيل: إنه يخالفه فإنّ السكاكيّ حمل النظم على استعارات حسنة، وترشيحاتها ومجازات بليغة، وعلاقاتها مع فخامة لفظها ووجازة نظمها، لمجعل القول مجازاً عن الإرادة بعلاقة تسببها له، والقرينة خطاب الجماد، كأنه قيل أريد أن روتدّ ما انفجر من الأرض وينقطع طوفان السماء، وجعل الخطاب بيا أرض ويا سماء وأرادا ملى نهج المكنية تشبيها لهما بالمأمور المنقاد، وأثبت لهما ما هو من خواص المشبه به أعني النداء، وجعل البلع استعارة لغور الماء فيها للذهاب إلى مقر خفيّ، والماء استعارة مكنيه تشبيها لى بالمطعوم المتغذي به، والقرينة ابلعي باعتبار أصله، وان كان عنده استعارة تصريحية على حد ينقضون عهد الله، ورجح استعارة البلع للنشف على ما اختاره كما سيأتي، وجعل أمر البلع ترشيحاً للمكنية التي في المنادى لزيادته على القرينة، كما تقرّر عندهم، وجعل إضافة الماء إلى الأرض! مجازا لغويا لاتصال الماء بها، كاتصال المال بالمالك، والخطاب ترشيح له، قيل: والظاهر أنه تجوّز عقلي في النسبة، والخطاب ترشيح للمكنية في المنادى، وقد مرّ تحقيقنا لهذا المبحث في مالك يوم الدين، والخلاف فيه بين الفاضلين، واستظهروا أنه من إضافة الغذاء إلى المغذي في النفع والتقوّى وصيرورته جزءاً منه، ولا نظر إلى المالكية، ومن أراد بسط الكلام في هذا فلينظر شروح المفتاح، وقوله: الذي يأمر المنقاد لحكمه يعني فيأتمر ويبادر للامتثال، وتركه لظهوره، وهذه المبادرة من السياق لا من دلالة الأمر على الفور كما قيل. قوله: (والبلع النشف والاقلاع الامساك) النشف من نشف الثوب، العرق كسمع وبصر إذا شربه، قال المدقق: هذا أولى من جعل السكاكي البلع مستعار الغور الماء في الأرض لدلالته على جذب الأرض ما عليها، كالبلع بالنسبة إلى الحيوان، ولأنّ النشف فعل الأرض، والغور فعل الماء، فلله دره ما أكثر اطلاعه على حقائق المعاني، وأمّا ما قيل: إن البلع ترشيح والاقلاع تجريد بناء على قول الزمخشريّ، أقلع المطر فوهم لأنّ تفسير الامساك يرشد لخلافه فتأمّل. قوله: (وغيض الماء نقص) من غاضه إذا نقصه وجميع معانيه راجعة إليه، وقوله الجوهري: غاض الماء إذا قل ونضب، وغيض الماء فعل به ذلك لا يخالفه وهو إخبار عن حصول المأمور به من السماء


الصفحة التالية
Icon