فالمراد بقوله جادلتنا شرعت في جدالنا فأطلته، أو أتيت بنوع من أنواع الجدال فأعقبته بأنواع فالفاء على ظاهرها، وفيه إشارة إلى أنه لا حاجة إلى تأويل جادلتنا بأردت جدالنا كقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ﴾ [سورة النحل، الآية: ٩٨] كما في الكشاف. وقال المدقق: إنه عبارة عن تماديه في الجدال، يعني مجموع ما ذكر كناية عن التمادي والاستمرار، والحامل له عليه عطف فأكثرت بالفاء. قوله: (في الدعوى والوعيد) أي في دعوى النبوّة والوعيد بنزول العذاب، قيل لا حاجة إلى الأوّل، إذ المعنى إن صدقت في حكمك بلحوق العذاب إن لم نؤمن بك، وما في ما تعدنا مصدري أو موصولة، والعائد مقدر أي تعدناه. قوله:) بدفع العذاب أو الهرب (أعجزه بمعنى صيره عاجزاً، والعجز إمّا بالدفع أو بعدم وجود المعذب، وكلاهما محال هنا. قوله:) شرط ودليل جواب الخ) الشرط هو قوله إن أردت أن أنصح لكم، دليل الجواب هو قوله: ولا ينفعكم نصحي، ومجموع قوله: (ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم (دليل على جواب الشرط الآخر، وهو قوله: ﴿إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ وفي الكشاف قوله: ( ﴿إِن كَانَ اللهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ﴾ ) جزاؤه ما دلّ عليه قوله: لا ينفعكم نصحي، وهذا الداذ في حكم ما دلّ عليه، فوصل بشرط كما وصل الجزاء بالشرط في قولك: إن أحسنت إليّ أحسنت إليك، أن أمكنني، يعني أنّ ما تقدم جزاء حكما لا
لفظاً، فقيد بشرط آخر، كما قيد صريح الجزاء، لأنّ التقييد من مقتضيات معنى الجزاء لا لفظه، وحينئذ جاز أن يكون قيدا للجزاء المجرّد، فيتعلق الشرط الأوّل بالجزاء معلقا على الثاني، ويحتمل العكس، فليس ما ذكر بناء على قواعد الشافعية على ما توهم، ثم إن كان أحد الشرطين لا ينفك عنه الجزاء أو الشرط الأوّل، فهو لتحقيق المرام وتأكيده، كما فيما نحن فيه، وقول القائل: إن دخلت الدار، فأنت طالق إن كنت زوجتي، والا فهو لتقييد الجزاء على أحد الوجهين والذي حققه النحاة، كما في شرح التسهيل لابن عقيل رحمه الله: أنه إذا توالى شرطان فأكثر كقولك إن جثتني، إن وعدتك أحسنت إليك، فأحسنت إليك جواب إن جثتني، واستغنى به عن جواب إن وعدتك، وزعم ابن مالك أنّ الشرط الثاني مقيد للأوّل بمنزلة الحال، وكأنه قال: إن جئتني في حال وعدي لك، والصحيح في هذه المسألة أنّ الجواب للأوّل، وجواب الثاني محذوف لدلالة الشرط الأوّل وجوابه عليه، فإن قلت إن دخلت الدار إن كلمت زيداً إن جاء إليك فأنت حرّ، فأنت حرّ جواب إن دخلت، وان دخلت وجوابه دليل جواب إن كلصت، وان كلمت وجوابه دليل جواب إن جاء، والدليل على الجواب جواب في المعنى، والجواب متأخر فالشرط الثالث مقدم، وكذا الثاني، وكأنه قيل: إن جاء فإن كلمت، فإن دخلت فأنت حرّ فلا يعتق إلا إذا وقعت هكذا مجيء ثم كلام ثم دخول، وهو مذهب الشافعيّ رحمه الله، وذكر الجصاص أنّ فيها خلافا بين محمد وأبي يوسف رحمهما الله تعالى، وليس مذهب الشافعيّ فقط والسماع يشهد له قال:
إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا منا معا قد عزز إنها كرم
وعليه فصحاء المولدين، وقال بعض الفقهاء: الجواب للأخير، والشرط الأخير وجوابه جواب الثاني، والشرط الثاني وجوابه جواب الأوّل، وعلى هذا لا يعتق حتى يوجد هكذا دخول ثم كلام ثم مجيء، وقال بعضهم: إذا اجتمعت حصل العتق من غير ترتيب، وهذا إذا كان التوالي بلا عاطف، فإن عطف بأو فالجواب لأحدهما دون تعيين، نحو إن جئتني أو إن أكرمت زيدا أحسنت إليك، وان كان بالواو فالجواب لهما، وإن كان بالفاء فالجواب للثاني، وهو وجوابه جواب الأوّل، فتخرج الفاء عن العطف، وهذا مقرّر في كتب الفقه والنحو ولا كلام فيه، وإنما الكلام في كون هذه الآية من ذلك القبيل، فجعلها المصنف رحمه الله تعالى كغيره منه فعليه لا فرق بين تقدم الجواب وتأخره عته، واستشكله ابن هثام في المغني بأنه لم يتوال فيها شرطان بعدهما جواب، وكلام النحاة فيه، والبيت السابق فيما كان ذلك، وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في المعنى للأوّل، فينبغي أن يقدر إلى جنبه، ويكون تقديره أن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم، وأمّا أن يقدّر الجواب بعدهما ثم يقدر بعد ذلك مقدّما إلى جانب الشرط الأوّل فلا وجه له فعليه يختلف حكم المسألة والتوسط والتأخر، وله رسالة في هذه


الصفحة التالية
Icon