والكلام هنا في إرشاد العباد، وبيان طرق السداد، فاقتضى تخصيصه بالذكر ولكل مقام مقال فلا حاجة بعد ما بين المصنف رحمه الله مراده إلى أن يقال: إن المعنى أنه من أعظم نعمائه أو أنه أفضل من وجه فإنّ إرسال محمد ﷺ وخلق الاهتداء كذلك والا لزم ترجيح أحد المتساويين أو ترجيح المرجوج، وما قيل إنّ المعنى أنه كذلك في نفسه لا أنه أعظم من غيره من النعم فيتعارض مع ما يترتب على الحمد سواه في السور الأخر وأنّ نعمة الإنزال تتضمن نعمة الإسلام وارسال الرسول ﷺ من ضيق العطن، وفي ذكره بعنوان العبودية تنبيه على عظمة المنزل والمنزل عليه، كما يدلّ عليه الإضافة الاختصاصية، وقد سبق تحقيقه في سورة الإسراء. قوله: (شيئاً من العوج (أي عوجا ما وهو مأخوذ من وقوع النكرة في سياق النفي، والعوج هنا معنوي وهو إمّا في اللفظ أو في المعنى وعوج اللفظ اختلاله في الإعراب ومخالفة الفصاحة، والمعنى تناقضه وكونه مشتملا على ما ليس بحق أو داعيا لغير الله، وفي تعبيره بالانحراف مبالغة إذ لم ينحرف إليه فضلا عن الاشتمال عليه. قوله: (وهو (أي العوج بكسر العين وفتح الواو لأنه المذكور في النظم الذي فسره وهو مبتدأ خبره قوله: كالعوج أي
بفتحتين ولذا أظهره، وفي المعاني وفي الأعيان حالان أو قوله: في المعاني خبره يعني أنّ المكسور يكون فيما لا يدرك بالبصر بل بالبصيرة والمفتوج فيما يدرك به ولا يرد عليه قوله تعالى: ﴿لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا﴾ [سورة طه، الآية: ٠٧ ا] أي في الأرض، مع أن عوجها يدرك بالبصر، ولذا ذهب ابن السكيت إلى أنّ المكسور أعم من المفتوج كما سيأتي تفصيله ثمة لأنّ عوج الأرض الواسعة لما كان يعرف بالمساحة كان مدركا بالبصيرة فلذا أطلق عليه. قوله: (مستقيماً) تفسير له بحسب اللغة، وقوله: معتدلاً لا إفراط فيه، ولا تفريط أي في الكتاب الموصوف به وفسره به ليغاير ما قبله إذ معناه لا خلل في لفظه ولا في معناه، وبعد كون معناه حقا صحيحا لا إفراط فيما اشتمل عليه من التكاليف حتى يشق على العباد ولا تفريط فيه بإهماله ما يحتاج إليه حتى يحتاج إلى كتاب آخر، كما قال: ما فرّطنا في الكتاب من شيء، ولذا كان آخر الكتب المنزل على خاتم الرسل عليه الصلاة والسلام وعدل عما في الكشاف من أنه توكيد فرب مستقيم مشهود له بالاستقامة ولا يخلو عن أدنى عوج عند السبر والتصفح لأنه مع كون التأسيس أولى أو رد عليه أنّ ما ذكره إنما يصحح ذكر النفي عقب الإثبات حتى يزيل ما يتوهم من بقاء شيء منه وأمّا على تفسيره فلا حاجة إلى ذكره دون العكس فكان عليه أن يقتصر على أنّ فائدته التوكيد، ودفع بأنّ فائدته أن لا يتوهم أن له عوجا ذاتيا لا بالجعل بأن تنفر عنه الطباع السليمة لصفة ذاتية، ورد بأنه حينئذ يكون تأسيسا لا توكيداً وقال بعض فضلاء العصر أنّ الإيراد ناشئ من عدم فهم المراد، فإن مراد العلامة أنّ نفي العوج وذكر الاستقامة والجمع بينهما وهما كالمترادفين كما يدلّ عليه كلامه عند التأمّل يفيد التاكيد لا أن أحدهما بعينه مفيد له وليس مراده أنّ نفي العوج يؤكد الاستقامة حتى يرد ما ذكر وليس بشيء لأنّ مراده أنّ نفي شيء ما من العوج هو المؤكد للاستقامة المزيل للتوهم فكان ينبغي تأخيره وانكاره مكابرة لكنه مدفوع بما ستراه إن شاء الله تعالى. قوله: (أو قيماً بمصالح العباد الخ (عطف على قوله: مستقيما وأعاد قيما ليظهر تعلق الجار والمجرور المقدر في النظم به، ولم يعده فيما بعده لظهوره، والقيام يتعدى بالباء كقولهم: فلان قيم بهذا الأمر وبعلى كما في قوله: أفمن هو قائم على كل نفس واليهما أشار المصنف في الوجهين ومعنى قيامه بمصالحهم تكفله بها وبيانها لهم لاشتماله على ما ينتظم به المعاس والمعاد فهو وصف له بأنه مكمل لهم بعد وصفه بأنه كامل في نفسه بقوله: ولم يجعل له عوجا على ما مرّ من تفسير. وقوله: أو على الكتب الخ فهو بمعنى شاهد بصحتها، والحاصل أنه ذكر لقيماً ثلاثة معان في الأوّل منها: ليس له متعلق مقدّر وعلى الأخيرين له متعلق مقدّر إمّا بالباء أو بعلى وهو على الكل تأسيس لا تأكيد كما مرّ. قوله: (ثقديره جعله قيماً) على أنه جملة مستأنفة ولم يقدره وجعله بالعطف على ما قبله كما
قيل لأنّ حذف حرف العطف مع المعطوف تكلف وقوله أو على الحال من الضمير في له هذا ما اختاره


الصفحة التالية
Icon